أدونيس شاعر ثقافي بسعة الكون اللانهائي

Views: 15

د. حورية الخمليشي

(المغرب)

(من دراسة لم تنشر)

لعلّنا نتساءل من هو الشاعر الثقافي الأكثر حضوراً اليوم في عالمنا العربي وغير العربي؟ومن هو الشاعر المثقّف المتسائل الذي أسّس لثقافة التساؤل في الشعر والفكر العربي، فزعزع بأسئلته ما يجري في عالمنا العربي من تخلُّف شعري وسياسي وطائفي وهوياتي؟ ومن هو الشاعر الذي قدّم أوّل موسوعة شعريّة عربيّة من نوعها في الشعر الحديث والمعاصر منذ موسوعة “ديوان الحماسة” لأبي تمام، وسنّ بها اتجاهاً جديداً في النظر إلى الشعر العربي كشعرٍ إنساني،متجاوزاً لكلّ المقاييس النقديّة القديمة في قراءة الشعر العربي؟ومن هو الشاعر الذي أرسى التّحوّلات الكبرى في تاريخ الشعر العربي بعد أن أخرجه من قيود التقليد إلى آفاق التجديد والحرّيّة والانفتاح، فأسّس بذلك لعصرٍ جديدٍ في الشعر العربي؟

ومن هو الشاعر الذي قدّم أوّلقراءة للحياة الثقافيّة العربيّة من منظور الحداثة وآفاقها المعرفيّة والإنسانيّة فكانت رحلة استكشافيّة جديدة في التاريخ العربي الإسلامي؟ ومن هو الشاعر الذي شغل الناسَ بجرأته الفكرية وأسئلته القويّة التي زلزلت الكثير من المفاهيم في التاريخ العربي الإسلامي؟

 

لا شكّ أنّ كلّ مُهتمّ ومُتتبّع للشأن الشعري والفكري العربيستُحيله هذه الأسئلة المعرفيّة على أدونيس كأعظم شاعر إنساني عربي في الشعر المعاصر. فهو زعيم ثورة شعريّة ثقافيّة أسّسها بروح العصر الذي يعيش فيه بعلمه الكبير وثقافته العاليّة التي فتحت آفاقاً جديدة في الشعر العربي،بعد أن آمن بدين الحرّيّة والاختلاف والانفتاح. فكان الشاعر الأكثر انفتاحاً في زمننا على شعريات العالم بشعره وأعماله الفنيّة الباذخة. فأدونيس شاعرٌ ثقافي بسعة الكون اللامتناهي. لذلك لم يستطع النقد العربي لحدّ الآن تقديم دراسة خلاّقة للمشروع الأدونيسيلشساعة مشروعه وعمقه الشعري والفكري والفنّي.

إن أزمة الشعر اليوم هي أزمة ثقافية. وأدونيس ظاهرةٌ ثقافيةٌ قلّما يجود بها الزمان، وينبوعٌ من المعرفة لا ينفذ. (richmondartmuseum) فثقافة أدونيس الواسعة أهّلته لتجديد حياته وفكره. وقد طرح أسئلة لم تخطر على بال القارئ العربي. فهو مجدّدٌ في التنظير الشعري والفكري، مجدّدٌ في تحليله للتاريخ الإسلامي، مجدّدٌ في طرحه لأزمة الثقافة العربية. وشعر أدونيس تجددٌ دائمٌ وتأسيسٌ مستمرٌّ من أوّل مجموعة شعريّة كتبها بعنوان “قصائد أولى” عام 1957 إلى “دفاتر مهيار الدمشقي” عام 2020. شعره على الدّوام مسكونٌ بهواجس كونيّة. فقد سبق أدونيس الشعراء إلى كتابة وطرح العديد من القضايا والأشياء، لا يسع ذكرها في هذا المقال، لأنه يحتاج إلى دراسة خاصّة من بينها أن أدونيس أوّل من قدّم قراءة حديثة للتراث العربي شعرياً وفكرياً، ودعا إلى ثقافة عربيّة خلاّقة وقراءة جديدة للدين تقطع مع القراءة السائدة الفقهيّة والشرعيّة، بعد أن انتقد تأويل الدّين سلطوياً، ودعا إلى ثقافة شعريّة صوفيّة فلسفيّة.

 

وللشعر عند أدونيس قدرة طرح السؤال في تجاوز للأجوبة الجاهزة. فهو أوّل من طرح سؤال العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان والعالم، وكذلك سؤال الدّين والنبوّة والوحي والرسالة في مجتمع عربي منشغل بهاجس السّلطة.وأوّل من طرح سؤال الثقافة الحقيقية، وسؤال الحرّية والفصل بين الثقافة والسلطة من أجل قيام فكرٍ عربي حقيقي. وأوّل شاعرٍ لعب شعره دوراً تحوّلياً في الشعر العربي والثقافة العربية، وهو متحوِّلٌ في كل مرحلة من مراحله الشعريّة. فهو أوّل من دعا إلى القصيدة الشبكيّة، وكتب قصيدة معماريّة الشكل في “هذا هو اسمي” و”مفرد بصيغة الجمع” و”قبر من أجل نيويورك”، وأوّل من دعا إلى قصيدة النثر ومفهوم الكتابة الجديدة.

إنّ الشعر عند أدونيس ينبغي أن يكون سؤالاً لا جواباً، ليتسنّى للشعر أن يكون دائماً بحثاً عن الشعر، من أجل التجاوز والتغيير.فليس من مهمّة الشعر تقديم الأجوبة لكنّ فرادته تكمُن في قوّته المستمرّة على طرح الأسئلة في عالمنا العربي الذي يرفض طرح الأسئلة.فكان أوّل شاعرٍ خلق لغةً شعريّةً جديدةً خاصةً بالمرأة الحديثة. فلم يكتب شعر الغزل، بل كتب عن المرأة كذات وكينونة. ومن خلال جسدها قرأ تاريخ العرب شعرياً في كتابه “تاريخ يتمزق في جسد امرأة”.

وأدونيس أوّل من كشف الحجاب عن الذاكرة العربية بمسرحته للتاريخ العربي ثقافة وسياسة عبر شعر المتنبي في كتابه “أمس المكان الآن”. وهذا الكتاب كما وصفه أدونيس نفسه هو كوميديا أرضيّة عربيّة، كما نجد في الكوميديا الإلهية لدانتي. وهو كذلك مسرحيّةٌ إنسانيّةٌ إلاهيّةٌ تقدّم سفراً شعرياً في عمق الكينونة العربيّة. فهي رحلة في التاريخ العربي الإسلامي السياسي والثقافي والاجتماعي.لكن هل استطاع المسرح العربي تمثُّل شعر أدونيس ومسرحةأعماله الشعريّة العظيمة؟وهل استطاعت السينما العربيّة سيْنَمة نماذج من أعماله الشعريّة الرفيعة كما نجد عند روّاد منظّري سينما الشعر العالمية؟

وأدونيس هو الشاعر العربي الوحيد الذي يبدو الوجهُالأدونيسي من خلال أغلفة كتبه التي رسمها بفنّيّةٍ عاليّةٍ ومتفرّدةٍ لا نظير لها في كتُب الشعر والأدب.ووصلت أعماله الفنّيّة إلى ذائقة الأوروبيين والأمريكيين والآسيويين، عبر معارضه المتعدّدة التي أقامها منذ ما يقرب من عشرين سنة.

فقد دأب المثقّفون الصينيون على استدعاء أدونيس منذ الثمانينيات. وأحيى أمسياته الشعريّة في العديد من مدن الصين،إذ تجاوز ديوانه الأول في الصين مائة ألف نسخة، وأُعيد طبعه 30 مرة، بعد أن اكتسب شهرة واسعة. كما حضي بالعديد من الترجمات لمختارات من شعره وخاصة مجموعته “أوسمانتوس” التي صدرت بالصينيّة قبل العربيّة. وهي مستوحاة من جولته ومشاهداته لبعض مدن الصين التي تمتاز بطبيعة خلابة. وألقى أدونيس العديد من المحاضرات في أوساطها الجامعيّة والثقافيّة.

ونظّمت الصين العديد من المعارض الفنّية لرقائمه التي لقيت شهرة منقطعة النظير،ما جعل أدونيس أشهر شاعرٍ أجنبيٍّ على الإطلاق في الصين.الكثير من قرّاء العالم العربي يعرفون أدونيس شاعراً كبيراً، ولا يعرفون أنه فنّانٌ كبير. فالشعر والفن يعيشان دوماً جنباً إلى جنب في عقل وقلب أدونيس. سألته مرة عن سرّ هذا الاهتمام الكبير للصينيّين برقائمه، فقال لي بأنّ الصينيّين يفهمون شعره وفنّه جيّداً.

صحيحٌ أنه لم يشغل شاعرٌ عربيٌ الصينيّين بشعره وفنّه كما شغلهم أدونيس. فهل تساءلت الثقافة العربية عن سرّ المفاهيم الفكريّة الفلسفيّة لشعر أدونيس التي تلائم إلى حدّ كبيرٍ التأمل الفكري الوجودي لشعر أدونيس مع فلسفة الإنسان الصيني ومزاجه؟ وهل تساءلنا كيف يخطّ أدونيس، في فضاء لوحاته المبنيّة على اختيار معرفي لعيون الشعر العربي، قصيدته وقصائد شعراء مرموقين مجهولين؟ وهل تساءلنا كيف يتنفّس أدونيس حرّيته في الفن، وكيف ينتقي خاماته وأشياءه وألوانه؟

إن أدونيس ينتمي إلى الوجود الإنساني في هذا العالم. فوضع بذلك شجرة عملاقة لنسبه الشعري العربي الذي يصله بشعراء إنسانيين عالميين. فلا شيء يهمّه غير الإنسان داعياً بذلك إلى القصيدة الإنسانيّة الكونيّة المنفتحة على العالم وعلى المستقبل، بعد أن منح الشعر العربي جرأة المغامرة والانفتاح والاكتشاف والسفر في المجهول.

فمنذ عام 1964 جمع أدونيس مختارات الشعراء في “ديوان الشعر العربي”. وهو أوّل عمل شعري نقدي للشعريّة العربيّة مبني على رأي شخصي بعيد عن المعايير النقديّة التقليديّة. وهو الثائر على المناهج وصرامة القواعد الشعريّة. فكان هذا العمل متحفاً وخريطة للشعر العربي كما يقول عنه أدونيس. وقد ظلّ هذا العمل وما يزال من أهمّ المراجع الشعريّة النقديّة في الشعر العربي.

فأدونيس الطفل وُلد شاعراً متعدّداً في بلد متعدد الثقافات واللغات. وتفتّحت عيناه على طبيعة قصابين الخلابة في جوّ يختلط فيه الحرث والزرع والصلاة والغناء والموسيقى. فسوريا مهد الحضارات الإنسانيّة جميعاً، اشتهرت بطبيعتها الساحرة وأماكنها المدهشة. وقد ظهرت موهبته الشعريّة في سنّ مبكرة أي في سنّ الثالثة عشرة من عمره. فكان الشعر سبيله إلى التعلّم. وبالشعر أعلن انتصاره على الخنزير البرّي المتمثّل في التّخلّف والجهل والظّلم وثقافة الاستهلاك، وثقافة النقل والاستعادة التي تقوم عليها الثقافة العربيّة. فالعرب والمسلمون احتقروا الفكر والمعرفة والإنسان بعد أن كفّروا كل العبقريات حسب أدونيس.

عشق أدونيس اللّغة العربيّة، وتمكن من سحرها، فوهبها مشروعه الشعري الثقافي الفكري الكبير. هذا المشروع الذي كان منطلقاً للتغيّرات التي عرفها مجتمعنا العربي، دون أن يكون مُقلِّداً لأحد. وتحمل نصوص أدونيس عمقاً فلسفياً تنويرياً ولغة تخييليّة جديدة يصعب فكّ شفرتها. لغة تمحو كلّ تعارُضٍ بين الإنسان والكون بعد أن انطلق في شعره من المُنفتح اللانهائي. وأسّس عالماً شعرياً متفرداً خاصّاً به.

فأدونيس المسكون بالشعر والحب والثورة سافر بنا إلى الفضاءات البعيدة للكون، وإلى أماكن بعيدة عن المألوف الشعري والمُتداوَل، بعد أن اكتسب جرأة الرأي. واتخذ من شعره مشروعاً لتغيير العديد من المفاهيم.

كثيراً ما يتساءل أدونيس عمّا يقدر الشعر أن يفعل في ظلام العالم وبشعره أعاد تكوين العالم. فخلق أشياء ومعاني جديدة لم يبلغها أحدٌ من قبل. وجعل من الشعر الحياة والمستقبل، بعد أن آمن بأنه لا فرق بين الشعر والحياة. فابتدع لنفسه طريقة في القول والتخييل والتصوير جعلت منه شاعراً إنسانياً كبيراً.

وقد دعا أدونيس إلى إنتاج معرفة جديدة بعيدة عن الرؤية الدينيّة للإنسان والعالم. فأولى اهتمامه لقضايا العرب كالتّخلّف العربي والدين والمرأة والهويّة والحرّيّة والانفتاح والآخر المختلف… فالعربي عندما اختلط بالآخر كوّن ذاته ثقافياً.

كما رفض الجهل والعنف في المجتمع العربي. ودعا إلى تحرير الدين من السلطة التي تحكم باسم الله، لأن اختزال الإسلام في السلطة كان سبب إبعاد العرب عن التقدم الإنساني الخلاّق. هذا في وقت لم يجرؤ أحد عربياً من الخوض في هذه المسألة وفي العديد من المشكلات التي خاض فيها أدونيس. فأدونيس أوّل شاعر عربي سعى إلى تغيير البنية الحضارية العربيّة والتي هي بنية دينيّة قائمة على تقديس الماضي، لأنها انتهت إبداعياً وبقيت مستمرّة سلطوياً. وبسبب مواقفه وأفكاره من الدين والسلطة ظلّ أدونيس الشاعر العربي المضطهد من السلطة الدينية والسياسيّة والإعلامية.

لديّ حرصٌ معرفي على كل ما يكتب وينشر أدونيس. فقد حضرتُ العديد من أنشطته وأمسياته الشعريّة في العديد من البلدان. وكتبت دراسات ومقالات عن بعض مؤلّفاته. لكني كنتُ أتهيّب دوماً من ملاقاته تقديراً لاسم الشاعر فيه ولمسيرته الإبداعيّة والفكريّة الخلاّقة والاستثنائيّة. وشاءت الظروف أن أتعرّف عن قرب بأدونيس في باريس بخصوص دراسة عن رقائمه. فكانت لقاءات ادونيس ولادة معرفية جديدة في حياتي.التقيتُه في الوقت الذي كان يستعدّ فيه للسفر إلى الصين التي احتفت برقائمه. ومن عادة أدونيس أنه لا يبخل بوقته رغم كثرة انشغالاته واهتماماته.

أذكر في ذلك الوقت أني ذهبت للقاء أدونيس وأنا منفعلة، لأني أريد أن أسأله عن العديد من الأشياء بل عن كلّ شيء. لكنّ ابتسامته وطيبوبته وضحكته الطفوليّة وتواضعه الكبير أضفى على اللقاء متعة وجمالاً. فهو ملتزمٌ دائماً بمواعيده، وغالباً ما يأتي قبل الوقت المحدّد.

بدا لي أدونيس من بعيد شبيهاً باسمه الأسطوري. فهو جميلٌ كتمثال أدونيس إله الربيع والخصب والجمال عند الإغريق، وكشجرة “هايبريون” بأغصانها العالية الدّائمة الخضرة والوارفة الظلال. شجرةٌ تنتمي لعائلة أشجار السيكويا (Sequoia) العملاقة التي لا تشيخ. وأدونيس شجرةٌ عظيمةٌ في الشعر والفكر والفنّ. شجرة سامقة معطاءة بلا حدود. فهو إلهٌ في الشعر والتّجدّد، وكونٌ من المعرفة. وجدته غارقاً في قراءة كتاب، وهي عادة أدونيس في كلّ لقاء. فالكتاب رفيقه الدائم الذي لا يفارق يده.

في اللقاء مع أدونيس تجد نفسك في تواصلٍ دائمٍ مع العالم، بل تواصل مع الكون. قد يجيبك أدونيس دون أن تسأل، وهو الشاعر المتسائل المنشغل دوماً بهموم الثقافة العربيّة والإنسان العربي. يحب الأسئلة القويّة والجريئة التي يتحدث من خلالها عن كل شيء: عن الشعر والفن والحريّة والدين والعنف والمرأة والحوار مع الآخر المختلف… في حضرة أدونيس كنتُ أستمع أكثر ممّا أتكلّم. فالحكمة الصينيّة تقول “حوارٌ واحدٌ مع حكيم خيرٌ من دراسة عشر سنوات”.

وأدونيس من الشعراء الكبار الموهوبين الذين يظهرون من زمن لآخر. شاعرٌ بقلب طفل، تتعلّم منه بأن الحب أجمل ما في الإنسان، بل وتتعلّم منه كيف تزرع الإنسان. فقد أربك المشهد الشعري والنقدي العربي لِما في شعره من تقديس لامتناهي للإنسان، لأن أدونيس مسكونٌ بطاقة عظيمة من الحب، بعد أن اكتشف أنّ الحب أجمل ما في العالم.

ويرى أدونيس بأنّ الشعر مثل الحب، كلاهما اكتشافٌ للنفس وللآخر. فكان أجمل من كتب قصيدة الحب. وجاء شعره نبع الماء الصافي الذي لا يمكن تحديد مجراه. إنه شاعرٌ فوق التصنيف على امتداد العالم العربي والعالم، والوجه العربي البارز في الثقافة الأوروبية والآسيوية والأمريكية. اكتسب قوّة الحضور المستمر. الحضور القادم من المستقبل الشعري البعيد. وهو الشاعر الذي لم يفصل بين الشعر والفكر. بحيث يتقاطع الشعر والفكر جنباً إلى جنب في كل أعماله الشعريّة التي تضاهي الأعمال الشعريّة الكبرى في الثقافة العربيّة وغير العربيّة، بل وتتفوّق عليها في الكثير من السّمات والخصائص. لم يغيّر أدونيس شكل القصيدة فحسب، بل غيّر مفهوم الشعر ذاته. لغته الشعريّة لم تعد تكتبنا كما يقول عنها بل أصبح الجسد هو الذي يكتب اللغة. هكذا يأتي أدونيس من عوالم السّؤال والدّهشة والتّساؤل والكشف لاكتشاف الأشياء والعالم. فهو عابرٌ للقارّات واللغات والثقافات، وقامةٌ ثقافيةٌ كبيرةٌ على المستوى العربي والعالمي. له تاريخٌ طويلٌ من الإبداع.

استنتجت من كلام أدونيس بأنّ الثقافة العربيّة لا تعرف إلا القليل ممّا يعرفه الآخر عن فكر أدونيس وشعره وفنّه. يحب الجديد والمبتكَر في كل شيء. يقول لي في غير مناسبة كل شيء مبتكَر فهو جميل. الإنسان يجب أن يبتكر.

إنّ أدونيس أكثر الشعراء تأثيراً وحضوراً في ثقافتنا العربية المعاصرة. اتّسم بالثّراء والتّميّز لسعة ثقافته وعُمق فكره. فهو مثقّفٌ تنويري وصاحب مشروع ثقافي كبير. وهبَ حياته لخدمة هذا المشروع شعراً وفكراً وفنّاً وترجمة، وبه خلق واقعاً آخر في الشعر العربي، أضاء من خلاله أحداث التاريخ العربي بصورة جديدة في ضوء الحاضر والمستقبل.

تُرجمت معظم أعماله إلى أكثر من عشرين لغة، ونالت إعجاباً كبيراً. وبالرّغم من أنه يعيش في باريس لم يفتتن بحضارة الغرب، وظلّ وفياً للغته العربية. وأضاف الكثير للشعر العربي وللثقافة العربية.

فشعر أدونيس مشروعٌ ثقافي وكَيْنوني كبير للبحث عن الحقيقة والمجهول واللانهائي، وتجربة شعريّة متداخلة ومتشابكة، لها آلياتها ومرجعياتها الثقافيّة والفكريّة والفلسفيّة والفنيّة. كُتِبت عنه ما يقرب من خمسمائة دراسة. أعماله الشعريّة الإبداعيّة ومشاريعه الثقافية الفكريّة غيّرت المشهد الثقافي العربي. ومع ذلك تجده دائماً خاشعاً في رداء التواضع. يقول في إحدى حواراته عن كتاباته التي غيّرت المشهد الثقافي العربي “لا أزال أشقّ طريقي وأعُدّ نفسي تلميذاً، وآمل أن أموت وأنا تلميذ. أشعر حتى الآن أنّ ما أريد أن أكتبه لم أكتبه بعدُ”. هكذا يعلّمنا أدونيس كيف يمكن للإنسان العربي اليوم أن يكون مثقّفاً ومبدعاً وخلاقاً. فتحيّة لأدونيس لعلمه وتواضعه الكبيرين.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *