بين الحضارة والتجارة (2)

Views: 751

ماجد درويش

ونحن نراقب الحرب العالمية الشرسة الدائرة بين سلاح الطب العالمي وبين وباء ( Covid – 19)، ملاحظين التفاوت في بذل الخدمات الطبية في هذه المعركة بين دولٍ الإنسانيةُ فيها أرقى من أخرى، تقفز إلى الذاكرة صور من المسؤولية الإنسانية الراقية التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، والتي كانت أبعد ما يكون عن (الاستغلالية) والهمجية التي تمثلها اليوم بأبشع صورها شركات التأمين الصحي التي تهتم بالمال أكثر من اهتمامها بالإنسان.

معلوم أن بغداد – حاضرة الخلافة العباسية – شهدت صراعات مريرة مع ظهور البويهيين في القرن الرابع هجري، العاشر ميلادي، ومع ذلك فإن السلطان عضد الدولة البويهي أنشأ سنة (371ه – 981م)ـ بيمارستانا (مستشفى) اعتبر من مفاخر الحضارة الإسلامية تنظيما، وقد وصفه ابن جبير في رحلته يوم دخل بغداد في صفر من عام (580ه- 1184م) بأنه مدينة طبية قائمة بذاتها، فقال:

“سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم خدمةٌ (صناع متخصصون) يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير (جمع مقصورة) ، والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل اليه من دجلة”. 

البيمارستان العضدي في بغداد

 

كما وصف ابن جبير مارستان القاهرة، الذي أنشأه السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقال: «ومما شاهدناه أيضًا من مفاخر هذا السلطان: المارستان الذي بمدينة القاهرة. وهو قصر من القصور الرائقة حُسنًا واتساعًا، أبرزه لهذه الفضيلة تَـأَجُّرا واحتسابًا، وعيّن قيّما من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكُسِى (الكسوة). وبين يدي ذلك القَيِّمِ خَدَمَةً يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم.

وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى. ولهن أيضا من يكفلهن.

ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين. ولهم أيضا من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. 

والسلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد في الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. وبمصر مارستان آخر على مثل ذلك الرسم بعينه». 

فهذا كله يشهد على أن النظام الصحي لكافة الناس كان من أولى أوليات القائمين على أمر السياسة في تلك الأيام، وأن صراعاتهم السياسية لم تحل دون قيامهم بواجبهم تجاه الرعية، ولم تتخذ القضية الصحية ومصالح الناس يوما مغنما، وإنما كانت مغرما ينفق عليها الميسورون من سلاطين وأمراء وتجار حسبة لله تعالى لا يسألون الناس جزاءً ولا شكورا.

إنها مشافٍ تنفق على المحتاجين، لا مراكز حجز لمن لا يجد ما يدفعه لهم من المرضى..

هكذا تكون الحضارة، وهكذا تكون المسؤولية تجاه الناس.. لذلك ، والله أعلم ، إن الاستمرار بعد هذا الوباء والظهور والهيمنة ستكون لأكثر الدول إنسانية.

وصدق من قال:

إنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

البيمارستان الصلاحي في القاهرة
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *