قراءة في ومضة لـ هدى حجاجي

Views: 14

القدس-محمد موسى العويسات

 ” قرّر الذّهاب لمدينتها فوجدها خاليةً تمامًا إلا من ظلّها!!! مقبرة.” للأديبة المصريّة هدى حجاجي.

من جهة اللّغة الومضة كما ورد في لسان العرب لابن منظور من ومَضَ البرْقُ وغيره يَمِضُ ومْضاً ووَمِيضاً ووَمَضاناً وتوْماضاً أَي لَمَعَ لمْعاً خفيّا ولم يَعْتَرِضْ في نَواحي الغَيم؛ قال امرؤ القيس: 

أَصاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ ومِيضَه/كلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ 

قال الليث: الوَمْضُ والوَمِيضُ والوَمِيضُ من لَمَعانِ البرْقِ وكلِّ شيء صافي اللوْنِ، قال: وقد يكون الوَمِيضُ للنار. قال ابن الأَعرابيّ: الوَمِيض أَن يُومِضَ البرقُ إِماضةً ضعيفة ثم يَخفى ثم يُومِض… وأَوْمَضَ: لمع. وأَوْمَضَ له بعينه: أَوْمأَ.

 وفي الحديث: هَلاَّ أَومَضْتَ إِليَّ يا رسول اللّه أَي هلاَّ أَشَرْتَ إِليَّ إِشارة خفيَّة من أَوْمَض البرقُ ووَمَض…”  ( ينظر: لسان العرب: مادة ومض)

والمعنى الاصطلاحيّ للومضة سواء أكانت قصّة أو شعرًا قريب من هذا المعنى اللّغويّ، بل مستقى منه. ففيها الالتماع والخفّة والسّرعة وتحتاج إلى سرعة التقاط وإدراك.  

محمد موسى العويسات

*

فالقصّة الومضة من فنون الأدب العربيّ المستحدثة، وله أصل في الأدب العربيّ هو فنّ التّوقيعات وهي الأقوال البليغة الموجزة المعبّرة التي يكتبها المسؤول في الدّولة أو يأمر بكتابتها ردّا على ما يرفع إليه من قضايا وشكايات، متضمّنة ما ينبغي اتّخاذه من إجراءات نحو كلّ قضيّة، كتوقيع أحد الخلفاء العباسيّين لوالٍ له ثارت فتنة في ولايته، بقوله: ” داوِ جرحك لا يتّسعْ.” أو كتوقيع عليّ رضي الله عنه لطلحة بقوله: ” في بيته يُؤتى الحكمُ”. (https://www.greenbot.com) وقد امتازت التّوقيعات بالإيجاز الشّديد والتّكثيف، بحيث يصل المعنى أو المطلوب في أقلّ الكلمات، مع الحرص على جمال العبارة، ولفت الانتباه، وإثارة التّفكّر والدّهشة فيها. 

 وإذا كانت الومضة بمعنى الظّهور المفاجىء القويّ السّريع الخاطف، فإنّ  هذا يعني أنّ لها أركانًا، منها: التّكثيف: فلا مجال فيها للزّيادة في الوصف والاسترسال في الكلام، فهي كلمات قليلة تبلغ المقصود من المعنى، لذا لا نجد فيها كلاما زائدا، بل نجد خير مثال للحذف، وفنّا جليلا في اصطناع الفجوة المتروكة لفهم القارئ أو خياله. 

ومنها المفارقة: وهي إبراز التّناقض أو ما يشبه الصّراع والتّضادّ.

ومنها أيضا المفاجأة أو الإدهاش كما يسمّيه البعض، بمعنى أن تنتهي الومضة نهاية غريبة غير معتادة أو متوقّعة، فيقف عليها القارئ متفكّرا ومتأمّلا. 

ومن أركانها الإيحاء: بمعنى استخدام المفردات الموحيّة، أو النّصّ نفسه يحمل إيحاءات أو رمزيّة غير منغلقة، ويقع في هذا الاختلاف بين القرّاء في المقصود، أو بمعنى آخر احتمال النّصّ للتّأويل والدلالات البعيدة.  

والرّكن المهمّ فيها الغلق أو الختم، ويكون الإبداع فيها بقلة كلماته والمفاجأة وأن يكون فيها شيء من التّوكيد، وقد يكون غلقها على الأغلب كلمة واحدة، وهي أشبه ما تكون بالتذييل في علم البلاغة. 

وقد اطّلعت على ومضة للأستاذة الصّحفية الأديبة هدى أحمد حجاجي نشرتها على موقعها الفيسبوك فراقتني، هذا نصّها: ” قرّر الذّهاب لمدينتها فوجدها خالية تماما إلا من ظلّها!!! مقبرة…” فقرأتها متدبّرا على هذا الوجه:

 أول ما يقال في هذه الومضة أنّها جاءت بلغة مكثّفة، فكلمة “قرّر” توحي بأنّ هناك حدثا أو أمرًا ما يحتاج لفعل ما فكان القرار بالذّهاب، فهناك فجوة سابقة لا بدّ أن يرتدّ إليها الفكر أو الخيال، فيتصوّرها متناسبة مع السّياق، يعني هناك أحداث لم تذكر متروكة للقارئ، وهذا ما أوحت به لفظة “قرّر”، أما كلمة “الذّهاب” فهو المضي والتّحوّل من مكان إلى آخر، تاركا المكان الأول قاصدا المكان الثّاني لأمر أو غاية ما، قال تعالى على لسان إبراهيم: “قال إنّي ذاهب إلى ربّي، سيهدين”، ونقف عند لفظة “مدينتها” لنرى النّجاح الكبير في اختيار اللّفظ، فالمدينة تحمل معاني الحياة والحركة والتّمدّن والانفتاح والأمن والأُنس وغيرها، ثمّ أُضيفت المدينة إلى الضّمير المؤنّث (الهاء)، فعلى من تعود الهاء؟ نقع هنا في جزء من الإثارة والعصف الذّهنيّ، ويعتمد تقدير من يعود عليه الضّمير على ما يُفهم من النّصّ، وما يُتصوّر من المحذوف المتروك للخيال والتّفكّر، هل يعود الضّمير على امرأة، أو زوجة أو محبوبة، هل يعود على الحياة؟ هل يعود على البشريّة؟ هل يعود على الحرّيّة أو العدالة؟ لا يستبعد ذلك فـالضّمير “الهاء” أعطى النّصّ بعدا للاحتمالات والتصوّرات البعيدة والقريبة، ومن الجدير بالذّكر هنا أنّ مثل هذا الاستخدام غير جائز في بعض الفنون التّثريّة كالمقالة مثلا، فالضّمير لا بدّ أن يعود على مذكور أو معروف معهود لدى السّامع، غير أنّه في الومضة جميل سائغ لا ينكر أو يستنكر. ثمّ عُطف بالفاء في قولها : ” فوجدها” وهذه الفاء تسمى الفاء الفصيحة أو المفصحة أي تفصح عن محذوف قبلها، أي: قرّر الذّهاب فذهب فوجدها…” ناهيك عمّا تفيده الفاء من تعقيب دون مهلة زمنيّة بين الفعلين المعطوف والمعطوف عليه، أمّا قوله “خالية تماما” فهذا وصف موحٍ ومحتمل وتتعدّد فيه الأفهام، ممّا خلت المدينة؟ أمن أهلها؟ أمّن قوانينها أو أعرافها؟ ويتوقّف التّقدير أيضا على المقصود بالمدينة. وقوله: “إلا من ظلّها”، يعيدنا هذا إلى قضيّة على من تعود “الهاء”، ولكن مع احتمال أقرب هو أن تعود على المدينة، يعني لم يجد إلا ظلّ المدينة، وهذا احتمال أو تقدير جميل، وقولها: “ظلّها” لا توحي بالخلوّ والخواء من الحياة أو الحقائق أو من المحبوبة أو غيرها فقط، بل يوحي بالوحشة وفقدان الأنس، وهنا وقع معنى الانتكاس والخيبة. وكان الغلق أو الختم بكلمة واحدة ذات دلالة بيّنة هي قولها: ( مقبرة)، فالمقبرة تعني فقدان الحياة بكلّ مظاهرها، وتعني السّكون والصّمت، تعني الوحشة والخوف وأنّه لا نصير ولا مُصرِخ، تعني أنّ هناك مصيرا مجهولا، وغير ذلك. وهذه القفلة فسّرت الضّمير “الهاء” في ظلّها، فالرّاجح أنّه يعود على المدينة.

وهكذا نرى هذه القصّة الومضة قد جاءت على أركانها الخمسة، فاللّغة مكثّفة فلكلّ كلمة دلالة وبعد وإيحاء، وجاءت المفارقة جليّة في طلب الشّيء والمني بالخيبة، وهي حالة أو أنموذج لحالة بشريّة متكرّرة،  وجاء عنصر المفاجأة السّريعة بأن وجد المدينة خالية إلا من ظلّها، وجاء الإيحاء أو الرّمزيّة في الكلمات وفي القصّة نفسها، لتتعدّد تأويلاتها، فلها عموم جعلها كأنّها مثل يضرب في وقائع متعدّدة، وجاء القفل بكلمة تناسب الحدث وتأخذ القارئ إلى تصوّرات ذهنيّة ونفسيّة مؤثّرة، علاوة على ما أدّته من توكيد. 

وختاما أرى أنّ في الومضة فنّا بديعا، ربّما لا يجيده كلّ من ولجه أو ادّعاه؛ فهو كالتّوقيع تماما. وأرى أنّ السّرّ في الومضة أيّة ومضة هو حضور ذهنيّ وسرعة بديهة وفصاحة وتمكّن من اللّغة، وتمكّن من الموضوع أو الحدث الموحى به. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *