من جيوردانو  برونو إلى تيار دي شاردان… انسجام الكون والمسيح الكوني

Views: 521

أنطوان يزبك

الكون هذا الشاسع اللامتناهي معضلة بحدّ ذاته؛ معضلة من تفكّره وفهمه، وأيضًا في محاولة إيجاد مكان للإنسان فيه وتحديد علاقته به… ومن نحن الكائنات الضعيفة لكي نتماهى مع الكون، نحن الذرات المتنامية في الصغر حتى لا نكاد نشكّل ذرّة في خضمّ هذا الغبار الكوني الذي لا يحدّه عقل ولا يحتويه منطق!..

يقول أينشتاين:

“المشاكل العميقة التي نواجه، لا نستطيع أن نحلّها ونحن على ذات مستوى التفكير الذي كنا عليه عندما خلقناها!”

هل نفهم من أينشتاين أن على الإنسان أن يتطوّر ويتسامى إلى الحدّ الذي يفوق فيه ذاته وعقله وكينونته حتى يدرك ويعرف؟!

ها هو أينشتاين يسجّل خطوة جبّارة في تاريخ العلوم حين عدّل في نظرية الجاذبية التي شرحها نيوتن كقوّة تمارس بين اجسام كثيفة في الفضاء: إلى أن جاء أينشتاين وقال: “إن الجاذبية تنقل الأجسام في الزمان والمكان بحريّة من دون أن تحرّكها قوة الجاذبية التي ليس لها سوى وجود نسبي”.

والحال أن مقولة أينشتاين تنفي وجود وإحداث القوة وتدخلنا في مفهوم النسبيّة الذي يبقى مبهمًا بالنسبة للإنسان التائه الذي لا يجد شيئًا؛ ينسب إليه قوى الطبيعة الحيّة؛ المرئية وغير المرئية، كما تلك العبارات التي نتمتمها في القداس:

“أغفر لنا يا رب الخطايا، التي اقترفناها بمعرفة وبغير معرفة”؛ وعليه تصبح المعادلة كما لو أن السماء والأرض اتحدتا كيما يخطئ هذا الإنسان ويذهب إلى المعاصي سائرًا بقدميه على الأرض، وعيناه مرفوعتان إلى الجلد!…

جيوردانو برونو

 

جيوردانو برونو الثائر الأكبر

ولد جيوردانو برونو سنة 1548 في نولا-إيطاليا، وقد اعتنق نظرية كوبرنيك حول دوران الأرض، على الرغم من أن هذه النظرية كانت محرّمة من قبل رجال الدين آنذاك، كما ذهب إلى أبعد من هذه النظرية بقوله إن النظام الشمسي هو واحد من مجموعة نظم تغطي الكون وإن الكون بحد ذاته يتمتّع بألوهيّة ولا نهائية، طبعًا عوقب برونو بالإعدام حرقًا بعد أن اتهمته الكنيسة بالهرطقة ليعاد اعتباره سنة 1828 حين ألغي الحرم عنه وأقيم له تمثال في روما، في واحدة من ساحاتها!

كانت الحجة آنذاك أن نظريّة برونو ستؤدي إلى إلحاد وهرطقة كبيرين، فالأرض وما عليها، كوكب صغير، وإذا اتسعت الأكوان وأصبحت شاسعة. قد يتساءل البعض كيف يتنازل الله؛ ويرسل ابنه الوحيد من أجل هذه الأرض التعيسة.

قال غوته في هذه المسألة:

“كل الرواية المسيحية الشاعرية الرائعة تبدّدت كالدخان لدى انتشار نظريّة كوبرنيك”.

كان اللاهوت في تلك الحقبة يعادي علم الفلك ويجده تحدّيًا سافرًا لا يقوى عليه، ويخشى أن يلاقيه في ميدان المنازلة. لكن في المقلب الآخر كان علم التنجيم مزدهرًا، خاصة ي أوساط الحكام والأمراء والملوك، وها هو نوستراداموس (ميشيل دو نوتردام) يتنبأ للملك شارل التاسع أنه سيعيش 90 عامًا ليموت عن عمر 24 عامًا!!…

نوستراداموس

 

نوستراداموس أكبر كذبة في التاريخ!!

ولد ميشال دو نوتردام سنة 1503 في فرنسا، وهو صيدلاني ومنجم، ألف كتابًا سنة 1555، يحتوي على نبوءات مستقبلية عن زمنه وحتى نهاية العالم 3797، تأتي النبوءات على شكل أشعار، رباعيات مبهمة مكتوبة باللغة اللاتينية يُساء فهمها في غالب الأحيان وهي إلى حدّ كبير قابلة للتأويل في صور مختلفة وتركيبات متعدّدة، وهذه الترجمة الرديئة تجعل من رباعيات نوستراداموس عديمة الفائدة، كدليل على أي قدرة تنبؤية حقيقية وتعتبر هذه التنبؤات غير دقيقة عمومًا، ترجمت لكي يتمّ إثباتها وليس العكس، وهي من علوم الكهانة الزائفة.

عجيب أمر هذا الإنسان الذي يحارب العلم ويضطهد المعرفة الحقّة، ويهرع إلى العلوم المزيّفة لكي يصدّق كما تشتهي نفسه، وبحسب أهواء شخصه، يؤمن بالخرافة ويرفض الحقيقة التي يثبتها العلم؛ لقد صدق الفيلسوف الألماني العظيم إيمانويل كانط حين قال:

“نحن لا نرى العالم كما هو، بل نراه كما نكون نحن عليه”.

ولا يحسبّن احد أن إنسان القرن الـ 21 قد تغيّر أو تطوّر، فالإنسان هو هو، في كل عصر أو زمان أو مكان، يعيث في الأرض فسادًا ولا يقبل أن ينصاع إلى صوت العقل، لا بل يذهب إلى الفساد ركضًا، يستعجل تبديد جمال هذا الكون وحكمة الخلق، ويدمّر الطبيعة والبيئة شرّ تدمير وكأنه عدو الجمال والروعة ونعمة الله المجانية التي منحها للكون، والناس على ما يبدو صنفان: عاقل وجاهل كما قال المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم!

بيد أن طريق الحق والمعرفة لا يتغيّر مهما أمعنت البشرية في تشويهه ووضع العثار والعوائق في درب أصحاب الأفكار النيّرة وأهل العلم والفضل، وها هو “تيار دو شاردان” يعيد الإيمان إلى الكون إلى المدى الرحب، محاولا التوفيق بين الاكتشافات العلميّة وبين  نصوص الكتاب المقدّس، بحيث أنه أسّس لعلم جديد ولاهوت معرفي، غير مسبوق، وتكلّم على المسيح الكوني الذي هو في كل ذرّة من ذرات هذا الكون!!..

تيار دو شاردان

 

تيار دو شاردان طاقة الحياة غير المحدودة

في خلال عمله كمسعف في الحرب العالمية الأولى تسنّى لتيار دو شاردان الذهاب إلى غابة منعزلة، يسير فيها طوال ساعات متأمّلا ومفكّرًا وفي الصباح يدوّن أفكاره الفلسفية، العلميّة واللاهوتية.

من هذه الأفكار توصّل دو شاردان إلى ما يلي:

لقد انتقلت الخليقة من الطاقة إلى الحياة، من الجماد إلى النبات ومن الآحادي إلى المتعدّدة الخلايا، ومن المتعدّد إلى المتخصّص، ومن المتخصص إلى المعقّد، إلى الإنسان حتى يصل النمو في الخليقة نحو الأكمل وهو وحدة الخليقة أي الواحد.

نطقة البداية إذن هي نقطة النهاية، الألف والياء، يسوع المسيح، مصدر الخليقة؛ به كان كل شيء، الحياة ومآلها، فيه اكتمل كلّ شيء؛ وعليه تحدث دو شاردان عن المسيح الكوني أو “الأوميغا” نقطة الأوميغا حيث ستتكشّف كل مناحي الخلق، والمسيح الكوني سيبشّر بقدوم حقبة من التناغم بين وعي البشر وإدراكهم في وحدة كبرى مع الخالق الأعظم. هذه الوحدة تشكّل عماد الكون والمادة والروح التي لا تتناقض، كما يقول دو شاردان، بل تعمل سويّة لأجل إحداث هذا الاستقطاب الكوني تجاه المسيح.

لا بدّ لنا من الوصول إلى خلاصة مفادها أن مسيرة الإنسان نحو المعرفة شاقة وقبل برونو ودو شاردان كان هناك فلاسفة وقديسون رموا بأنفسهم في شعلة الاتحاد مع الله، غير عابئين بما سيقوله عنهم الناس أو كيف ستعاملهم السلطات المدنيّة على حد سواء. ما لهج به جيوردانو برونو وكلّفه حياته عاد وطوّره شاردان، بطريقة أخرى أكثر علمية وأعمق فلسفة، لكن تبقى الحقائق واليقين لتظهر على السطح مهما كانت الاضطهادات ظلاميّة، ومهما حاول أبناء الظلام إسكات أهل النور!!…

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. أجابات شافية لمن يريد الفهم وأحجية تحيّر الرافض المتعصّب!
    خلاصتك الفكريّة العلميّة الفلسفيّة والروحيّة الإنسانيّة تنمّ عن ثقافة عالية وتمحّص عميق بكلّ الطروحات والشؤون التي تعني البشر جميعهم.

    تحيّة تقدير لك!

    بيار