ابراهيم شحرور… طَوّافٌ على الزَّقزَقَة

Views: 899

الدكتور جورج شبلي

 

عندما زارَ الشِّعرُ بلادَنا، ظفرَ برفقةِ مُحَسِّنٍ طَيّاب، مولَعٍ بأوقاتِ الفرح، ما غمضَت أَجفانُ حبرِهِ عن الجَمال، يَصنعُ اللَّمحةَ مشهداً، والمَشهدَ دهشة. ابراهيم شحرور يرشُّ ماءً نَضِرةً على يَباسِ الحُروف، فيلَقِّحُ الكلامَ بالموهبةِ، ليصبحَ الشِّعرُ، معه، طريقاً مسلوكاً، بهدايةٍ، كطريقِ المَجوس. وكلّما مالَ لسانُ ابراهيم شحرور، أَنبَتَ شِعراً، ومن دونِ مُكابدة، فكأنّه وُلِدَ في بُرجِ الإبداع. هذا الشّاعرُ، له صفةٌ واحدةٌ هي “شاعِر”، لأنه تَمالَحَ مع الشِّعرِ، حتى لَنَحسَبَ أنّ شحرورَ الشِّعرِ لم يرفرفْ إلّا فوقَ رأسِه، لأنه لم يَجِدْ محلّاً أَعمَرَ، له، من محلِّه.

في القصائدِ، من كلِّ نَوع، بدا ابراهيم اللَّطيفُ النّسيم، فَطِناً، جمعَ بينَ الإنبثاقِ العفويِّ للإبداع وبينَ خَبزِ عجينِهِ، وببراعة. وكانَ مُوالِياً لنسيجِ الجَمال، يُحرزُ نصراً كلّما تجرَّأَ على دخولِ هيكلِهِ، فالرَّجلُ الذي “عَلَّق عَ ضَوّ الشّمس، تا ضَوّى”، يستأثرُ بِكَرعاتِ الضَوءِ ليظفرَ، بِفَرِّهِ الى الفَوقِ الخلّاق، بطمأنينةِ أنّ الشِّعرَ ليس دوراناً في فلكٍ محدود، وليس نسيجاً موروثاً، بل هو ثورةٌ شَرِهةٌ الى الإبتكارِ، يفوزُ فيها، دائماً، عِشقُ التَخَطّي.

 

 لم يَمِلْ ابراهيم شحرور عن الوقارِ في مقاربةِ الحقائقِ الكونيّة، ولم يجالسْ، فيها، أهلَ التلوُّنِ بينَ العُسرِ واليُسرِ، ليتحوَّلَ عَبَقُ ذِهنِهِ حَطَباً، ونورُ حواسِهِ تراباً. فشِعرُه ليس، فقط، إحساساً بالحقيقةِ، كما هي، بل موقفٌ منها على أنها المثلُ المُطلَقُ، ما يُقيمُ رابطاً، عندَه، بين الرّوحِ وبين الكَون. وما قولُه ” يا رَيتْني واقِف عَ تاني مَيل / وعمري اللّي رايِح، إِقشَعو جايي” سوى إحاطةٍ بِماورائيّةٍ تفيضُ عنها حالةٌ هي أقربُ الى مواجهةِ المصيرِ، منها الى رجفةِ الحائرِ أمامَ الظنِّ والخَوف.

يقول أبو شبكة ” إِجرحِ القلبَ واسْقِ شِعرَكَ منه…”، والجرحُ وجعٌ مَحتومٌ، مُطَعَّمٌ بعروقِ الوجدان، يُنَغِّصُ، ويَغصبُ الرّاحة. لقد تحرَّقَت عواطفُ ابراهيم على فَقدِ والدِه الذي نقلَ، إليه، الموهبةَ بالوراثةِ والدِّراية، وتطاولَ عليه البكاءُ، وهو المُنتمي الى رزانةِ العزائم، فرَضِيَ ولم يَبكِ سِرّاً. بكى والدَهُ الذي كان من سادةِ القَول، قَهراً، وأدامَ، طويلاً، على قلبِهِ جرعاتِ الدّموع، وقال ” ضلَّيت إِمسَح دمع عينَيِّ / حتى طُلِعلي عيون عا دَيّي “. حقّاً، إنّ الوجدانيّةَ المُلحَقَةَ بحواشي الألم، تخفضُ رأسَها أمامَ سُدّاتِ العواطفِ المَكسورةِ بالجراح.

في عصورِ الغَزو، وإذ يعودُ الشِّعرُ الى الأزمنةِ البدائيّة، وبينما سُمِحَ للهولاكيّين باحتلالِ الدّواوين فما أَبقَوا في محرقاتِهم على مكتبة، لم يُصِبِ النَّشازُ تغريداتِ الشّحرور، لتَذهلَ عمّا اعتادَته من حُسنِ ديباجةٍ، وصافي مُتون، وتَخرجَ عن عُرفِ جَرْيِ اللَّحنِ في العود. فقد دامَت أغنياتُها قُطَعاً من الجَمالِ، مُطَرَّزَةً، تُضَمُّ الى بلاطِ الأَصالة. ولمّا كان الشِّعرُ نسيجُهُ الموسيقى التي تُصبحُ فيهِ مَرقَصَ الشّمس، كانتِ العبارةُ تَسندُ، بالإيقاعِ، أختَها، وصارَتِ الكلمةُ تُمَجَّدُ باللَّحن، من هنا، شَرَّقَ ابراهيم شحرور قصائدَه بمقاماتِ الموسيقى، فعبرَت عصراً امتدَّ زاهِراً كصوتِ النّاي. إنّ تطعيمَ جُمَلِ الشِّعرِ بِجُمَلِ الموسيقى، جعلَ ابراهيم شحرور دائمَ الوجودِ في الخطوطِ الأولى، وهو المُتَّقِدُ الحسِّ والآه، فشاركَ بإحراقِ البخّورِ في هياكلِ الإبداعِ، فكانَ من الكُهّانِ، ولكن من دونِ لَقَب.

الصّورةُ، في شِعر ابراهيم شحرور، هي الجوّالةُ على قصائده فلا يُناضِلُ فيها اللّامألوفُ ليفيضَ عن قوالبِ الخَيال. والخيالُ، مع الشّاعر، إناءُ إحساسٍ يفرضُ سطوتَهُ على عُروقِ القصيدة، فتسافرُ على بساطِ ريحٍ الى الجزءِ النّاضجِ من الحقيقة. والصّورةُ، في نتاجِ شحرور، ثورةٌ ليسَت مزعومةً، مَعقودةٌ على الجَمالِ الخالي من العيوب، وكأنّها تتفلَّتُ من قمقمِ الإبداعِ لتفرضَ سلطانَها بلا ضوابط.

 

إنّ نهرَ الصُّوَرِ لا ينضبُ مع ابراهيم شحرور، وعدستَه لا تصدأ، حتى أنّ نَومَه ” بيصير إِلو شبابيك “، لذلك، لم تكن ولادةُ البدائعِ، من رَحمِ موهبتِهِ، قيصريّة. فصُوَرُهُ التي تُساهِمُ في صياغةِ الأَناقة، ليست من طينٍ وماء، فتتحوّلُ من لَفظٍ الى لَفظٍ، وتستمرُّ كذلك حتى تُحَطّمَ جسدَها، إنها فَكُّ الأَغلالِ عن الجَمال، أو شُغلُ صائغٍ يُخرِجُ حِليةً لا لِتُمَسَّ بل لِتُشتَهى، من بعيد.

 ابراهيم شحرور الذي يستعذبُ الرّحلةَ في طلبِ الجَمال، ارتدى زِيَّ الهَوَسِ به، وصارَ كَرّاماً في حَقلِه، فعادَ موفورَ الجعبةِ من نادِرِ المرصَّعات، مُتَفَلِّتاً من إيقاعِ المأنوسِ، ومن زنزانةِ العاديّة، ليُحَلِّقَ في بُروقِ السِّحر، ويُطَوِّعَ المُدهِش. ومن أَجملِ الخَطَراتِ التي تَفتتحُ حَرَماً مُزِجَ، فيه، بين الأَليفِ والغَريب، وبين المُضيءِ والحلم، قولُهُ: ” صَوبَنت وِجّي، دَمَّع الصّابون / تِخمين حِزني فاتْ بِعيُونو ؟”…

لقد اختبرَ ابراهيم شحرور مواسمَ الشِّعرِ، وروحُهُ موجةٌ يعيشُ شاطئُ الإبداعِ فيها، وتتوقُ إليهِ أينما بَعُدَت.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *