إتّفاق الطائف…الحلّ المؤقّت والإشكاليّة الدائمة

Views: 1325

العميد الركن م. صلاح جانبين

إن خلاصة ما آلت إليه الأمور في لبنان، على مستوى نظامه السياسي الاجتماعي، أو على مستوى بنيته الاجتماعية الداخلية، كانت في اتفاق الطائف، أو ما عرف “بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني”، الذي وضِعت خطوطه الأساسية والتفصيلية في مدينة الطائف السعودية بإشراف مباشر من المملكة العربية السعودية، سوريا، المملكة المغربية، الجزائر، وبمباركة وموافقة ودولية، وبمشاركة لبنانية متواضعة، تراوحت بين الموافقة والتحفّظ والمعارضة، من قبل التيارات والأحزاب السياسية اللبنانية على اختلافها وتعدّدها ممن شارك منها حضوريًا، أو لم يشارك بشكل مباشر( 58 نائبًا وافقوا، 3 نواب انسحبوا، 3 تحفَّظوا، نائب واحد تغيّب).

وقف الحرب: الغاية الأساس من الاتّفاق

لقد بان النواب في “الطائف” بالمظهر الحقيقي لوجودهم كنواب لطوائفهم ومناطقهم، غُلب على وجوههم صورة الخلاص والتخلّص من حالة العبثية والتشرذم والتفكّك والاقتتال والعنف والجنون؛غايتهم الأساسية وقف الحرب الأهلية التي عَصَفت بلبنان منذ سنة 1975، قبل البحث في أي شيء آخر، وإن كانت على حساب ربح بعض الأطراف المتصارعة في تحقيق أهدافهم السياسية. فكانت آليات الضغط العسكري والسياسي تعمل في هذا الاتجاه عند الأطراف المتصارعة. فظهر الاتفاق، وخمدت بظهوره نار الحرب، وأفصحت نصوصه المحدودة عن بعض الإصلاحات في بنية النظام، سياسيًا واجتماعيًا.

 

اتفاق الإجماع والممارسة المنقوصة

يُعتبر أتفاق الطائف المرجعية الدستورية، والوثيقة التي يستند إليها اللبنانيّون بعد الحرب الأهلية، التي التزمت بها كل من جامعة الدول العربية، المجموعة الأوروبية، مجموعة الدول الإفريقية ومجلس الأمن بالإجماع، والذي صُدِّق عليها في مجلس النواب اللبناني التي انعقدت في مطار القليعات شمال لبنان في الخامس من تشرين الثاني عام1989، على المبادئ العامة التي يقوم عليها لبنان لجهة هويته وانتمائه العربي، نظامه الجمهوري الديموقراطي البرلماني، الذي يقوم على احترام الحريّات العامة والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، والشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها بواسطة مؤسَّساته الدستورية، كما العيش والاستقلال النهائي لجميع أبنائه، في مجتمع واحد أرضًا وشعبًا ومؤسَّسات في حدوده المعروفة دوليًا.

 لقد أتى الاتفاق بشكل واضح على إلغاء الطائفية السياسية، لكن الواقع أنه كرَّس الطائفية في لبنان على صعيد الرئاسات الثلاث وقسَّم مجلس النواب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. كما فصَّل الإصلاحات التي تطال الإدارة بشكل عام والمحاكم وقانون الانتخابات النيابية وإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير مناهج التربية والتعليم وتعزيز الإعلام، بالإضافة إلى وصف آلية بسط سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها كافة. واعتبرفي مضمونه، أنَّ الإنماء المتوازن للمناطق، في كافة النواحي ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، كما العمل من أجل تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي.

لكن ما يُمارس على أرض الواقع السياسي كان منقوصًا ولا يخدم إلّا التوجهّات الحزبية والطائفية، فقد أرسى نمطًا جديدًا من التعامل السياسي، عزّز ما كان عليه لبنان قبل الاتفاق، قضى فيها على الصيغة والممارسة السياسية لحكم النظام والقانون والمؤسَّسات. إذ غاب مفهوم المشاركة في الحكم ليحلّ محلّه مفهوم التقاسم والمحاصصة، والتراضي والمحسوبيات في تنفيذ المشاريع بديلًا من المناقصات والفرص المتساوية والمنافسة أمام الملتزمين،وحلَّ التعاقد بأجور مرتفعة بديلًا من التوظيف على أسس العلم الكفاءة، وارتبطت الإدارة بالسياسيين بحبل من التبعية، فتكرَّست بذلك الزعامات، وقامت الصفقات، ونشطت الالتزامات، وتعطَّلت أجهزة الرقابة، وأصبحت المناكفة والمراوغة والإنقسام حالًا واقعًا يعيشه من في السلطة والمسؤولية من جهة، والتذمّر والحيرة والقلق والفقر والضياع الذي يعيشه المواطن من جهة ثانية.

ذلك هو اتفاق الطائف والحال الموروثة منذ ابرامه في العام 1989، صراع على السلطة لتحقيق المكاسب السياسية الشخصية والحزبية والطائفية، على حساب الوطن والمواطن، ما أسهم ارتفاعًا للدين العام الداخلي والخارجي وتراكم في العجز المالي، والإفلاس في الشركات والمؤسَّسات وتفشي الفساد، وانتشارًا للبطالة والفقر والعوز، وارتفاعًا للجرائم المرتكبة على اختلافها على امتداد الوطن(سرقة، قتل، مخدرات، احتيال، تزوير، غش، تبييض أموال، احتكار للسلع، حجز أموال في البنوك.)…

 

حتمية التغيير في النفوس قبل النصوص

ماذا ينتظر المواطن بعد كل السنينالتي مرّت من عمر الوطن، وما يريده الشعب بشكل عام من الدولة؟ هل هو إنتاج وإعادة تعويم للعناصر المجتمعيةالسابقة، وترسيخ بنية النظام السياسي نفسه، والدولة ذاتها بنظامها وحكّامها ومسؤوليها وإداريّيها، وبإشرافها المباشر، وإبقاء القديم على قِدمه؟ وما السبيل والطريق لتجديد دماء جديدة في عروق هذا النظام؟ ذلك هو قلب النزاع والصراع؛فالإشكالية لا تكمن في النصوص المعقودة والمبرمة، بل في تغيير النفوس والذهنية المريضة وتطبيق ما تمَّ الاتفاق عليه، بمنطق واحساس وممارسة المواطنةالفعلية، لنقل المجتمع من حالته الحزبية والولاء الطائفي، إلى حالته المدنية المنشودة وانتمائه وولائه الوطني، وليس شعارًا يُرفع لنتغنّى به على أطلال ما تبقّى من وطن.

إن النظام السياسي اللبناني منذ إعلانه في دستور 1926، وما لحق به من تعديلات كان نتاج ظروف وأحداث قد سبقت، عبّرت في مواده عن واقع الحال، والتي لحظت حقوق المواطن وواجباته وتفاصيل كثيرة تتعلّق بحرّيته ومساواته مع غيره أمام القانون، ومواد مرتبطة بظروف وأوضاع ناشئة في واقعنا التاريخي الثقافي والاجتماعي. فكان تآلفًا بين الديموقراطية الكلاسيكية وبينماسُمّيَ بالديموقراطية التوافقية التي بقيتفي إطار النصوص في أغلبيتها، بينما كان تباعدًا وتناكفًا بين المكوِّنات السياسية والحزبية، وتناقضًا في إطار الممارسة العملية على أرض الواقع، يتعرّض للإنهيار في كل مناسبة أو استحقاق، مغلِّبًا بذلك العنصر الديني والفئوي والولاء للطائفة والمذهب والدين، والمحاصصة والتقاسم والمصلحة الخاصة، على العنصر الوطني المتمثّل بالولاء للوطن والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات والمصلحة العامة.

الاعتبارات الطائفية والمصالح الضيقة، على حساب الاعتبارات الوطنية والمصالح العامة هذا التناقض في الصيغة والممارسة، جعل المجتمع اللبناني حائرًا بين أن يكون مجتمعًا مدنيًا يستجيب لمنطق وحاجات الحداثة، من حيث كون الفرد مواطنًا يتمتّع بحقوقه وواجباته بغض النظر عن دينه وميوله السياسي، وبين أن يكون مجتمعًا أهليًا يعتمد مرجعية انتمائه المتدرّجة من الأسرة إلى العائلة والعشيرة والطائفة والمنطقة والتيّار، وغيرها من الانتماءات المصنوعة ذات المصالح الضيّقة الخاصة، بديلًا عن الانتماءات الوطنية الطبيعية ذات المصالح العامة.

فبالرغم ممّا تضمّنته وثيقة الوفاق الوطني عن التعدّدية الثقافية والسياسية والطائفية، كانت الممارسة السياسية على هوى وميول أصحابها المتحكّمين، يتّفقون في ما بينهم حينًا، ويختلفون أحيانًا وعلى المستويات كافة. يتدخّلون بكل كبيرة وصغيرة، من أدنى فئة في الإدارة إلى قمّة الهرم في السلطة السياسية، من دون أي اعتبار وطني عام، سوى الاعتبار الطائفي لتحقيق المصلحة الخاصة والاستبداد باسم الديموقراطية. وبالتالي لم تتحقّق الكثير من الإصلاحات السياسية المنصوص عليها في الوثيقة بخاصة ما يتعلّق بفقرة إلغاءالطائفية السياسية وعلى مراحل تبدأ بإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسَّسات العسكرية والأمنية والمؤسَّسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلّة وفقًا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيّين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، لكن تجري رياح الإصلاحات بما لا تشتهي سفن المشرّعين والدستوريين.

 

اجتهادات وتفسيرات قانونية تساهم في الكثير من الخلافات والانقسامات

استطرادًا للمبدأ الدستوري المكرّس في النصّ(اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة من دون اعتبار للتمثيل الطائفي باستثناء وظائف الفئة الأولى)، فقد فسَّره المجلس الدستوري واعتمده في قراراته، حيث رأى: “أنه بقدر ما تتضمّن وثيقة الوفاق الوطني نصوصًا أُدرجت في مقدمة الدستور أو في متنه، أو مبادئ عامة ذات قيمة دستورية، بقدر ما تكون مُخَالَفَة تلك النصوص والمبادئ خاضعة لرقابة المجلس” و”بما أنَّالفقرة “ج” من مقدمة الدستور نصَّت أنَّ “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريّات العامة، و… على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، يجعل من هذا المرتكز مبدءًا دستوريًا نصّيًا يُصار إلى التحقّق من تقيّد القوانين بها والتزامها أحكام الدستور ومبادئه.

أما عبارة “وفقًا لمقتضيات الوفاق الوطني” ومحاولة الالتفاف على إرادة المشرّع لجهة الإشارة إلى أنها  تعني مراعاةً للتمثيل الطائفي، فذلك لا يستند إلى أي أساس قانوني، لصراحة النصّ ووضوحه. فالمقصود بمقتضيات المصالحة الوطنية التي تمّت عام 1989 بين القوى المتنازعة والتي أدّت إلى اتفاق الطائف، هي التي حدت بالمجتمعين إلى عدم اعتماد التمثيل الطائفي إنما الكفاءة .. كما تُعدّ مخالفة لأبسط قواعد تفسير النصوص الدستورية أو القانونية، فلو لم تكن الغاية من هذا النص اعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة من دون مراعاة التمثيل الطائفي، لما كان تعديل نصّ هذه المادة أصلًا.

كما أنَّ مجلس شورى الدولة، اتخذ قراره في هذا المنحى، واعتبر “أنَّ هذا التمييز بين وظائف الفئة الأولى وسواها من الوظائف العامة، يُعَبّر بوضوح عن إرادة المشترع التأسيسي في حصر قاعدة التوازن الطائفي الدقيق التي كانت معتمدة في ظلِّ النصّ القديم للمادة 95 بوظائف الفئة الأولى دون سواها، واعتماد قاعدة جديدة مرنة في سائر الوظائف العامة تعتمد الاختصاص والكفاءة وفقًا لمقتضيات الوفاق الوطني.

 

الوظيفة حق لكل مواطن كفوء من دون تمييز

فالوظائف العامة هي حق لكل مواطن لبناني من دون تمييز أو مراعاة لمذهب أو فئة أو دين، فلا يجوز حرمان من نجح في مباريات لوظيفة ما، من حق الوصول إليها لسبب طائفي، لأن إلغاء الطائفية واعتماد الكفاءة والإختصاص في الوظائف العامة مكرّس في الدستور. إضافةً إلى أنَّ الفقرة الأولى من مقدمة الدستور قد نصت “لبنان … هو عضو مؤسّس وعامل في منظَّمة الأمم المتَّحدة وملتزم مواثيقها…”، كما نصّت: “لكلِّ لبناني الحقّ في الإقامة على أي جزء منها والتمتّع به في ظلِّ سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، بسبب الجنس، أو الدِّين أو…”، وتولّي الوظيفة العامة بالكفاءة أحد هذه الحقوق، فإنَّ هذه الفقرة تًكرِّس مبدأ عدم اعتماد التمثيل الطائفي في الوظائف العامة وعدم التمييز بين المتقدمين للوظائف على أساس الدين. وغيرها الكثيرمن الإشكاليات والثغراتفي القوانين والتشريعات، ما أدّت إلى المزيد منالأزمات والتوتّرات والإنقسامات والخلافات والإنشقاقات، والمراوحات والمناكفات والنكايات، والفوضى والإضطرابات والإنهيارات على كافة الصُعد، التي ما زال الوطن والمواطن يدفع الثمن غاليًا.

أما آن الأوان لأن نتّعظ ونجتمع بإرادتنا، ونوحّد جهودنا، وننبذ خلافاتنا، لانقاذ وطننا وإن كان ذلك على حساب إجراء بعض التعديلات الدستورية والتفسيرات بهدف العدالة والمساواة بين الجميع؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *