قراءة انطباعيّة في قصّة “للوجع ظلال” لـ هدى حجاجي أحمد

Views: 893

القدس – محمد موسى العويسات

نجد في قصّة “للوجع ظلال” ” لـ هدى حجاجي أحمد أنَّ الكاتبة قد رسمت لها جوّا من الزّحام والازدحام، يعيشه القارئ في كلّ تفاصيلها، ازدحام النّاس في المركبة، ازدحام الذّكريات، ازدحام أحاديث النّفس، ازدحام الشّخصيّات.

جاء العنوان وصفًا للمشاعر والانطباعات التي يخرج بها القارئ بقراءته لهذه القصّة القصيرة. فالقصّة وجع له ظلّ لا تعيشه الشّخصيّة الرئيسة وحدها، بل يشاركه القارئ فيه. وهذا توصيف وعنونة لأجواء النفسيّة التي ترسمها القصّة:

 “رجل أحبّ فتاة بعد أن جاءها بغطاء رأسها الذي طيّرته الرّيح المعاكسة. التقاها في الحديقة الملأى بالأزهار الجميلة، وكان الممرّ إليها قصيرًا محفوفا بأشجار الصبّار والخروع… تعدّدت اللّقاءات عند الإشارة الضّوئيّة، وهذا أيضا ازدحام، تركته بعد أن سافر وتزوّجت من رجل آخر، فبدا وكأنّ حبيبها يعرفه، كان من نزلاء المصحّة. ثمّ يلتقي به وبها في الحافلة، يحول بتجويف صدره من وصوله إليها، يبدو أنّه يعمل مراقبا لتذاكر الحافلة، تنزل المرأة في إحدى المحطّات وتنسى غطاء رأسها الرّمادي على المقعد، يحاول أن يجلس في مقعدها، ولكنّه التقط غطاءها وحاول اللّحاق بها، فلم يدركها، وكان زوجها يتتبّعه من الخلف، غابت في بناء من طابقين”.

 

القصّة لم تعتمد الحوار بين الشّخصيّات، فكانت في كلّ تفاصيلها أحاديث نفس وانطباعات ومشاعر، جو الزّحمة والاختلاط اقتضى أن تختلط أحاديث الشّخصيات، فالكاتبة لم تشر إلى الشّخصيّة المتحدثّة بصوتها الدّاخليّ المبثوث للقارئ، فتركت للقارئ أن يدرك ذلك بنفسه، وقد استخدمت الكاتبة أسلوب الالتفات بفنّيّة كبيرة، فكان (أي الالتفات) يتجلّى في الانتقال من الحاضر إلى استرجاع الماضي بالتذكّر السّرديّ، ويتجلّى أيضا في التّناوب في أدوار الشّخصيات من دون الإشارة إلى مَن المتحدّث. واستخدمت أسلوب الفجوة الفنّيّة المتروكة لخيال القارئ، كانت اللّغة الانطباعيّة وقراءة معالم الوجه غالبة في وصف الشّخصيّات. ووظّفت الرّمز بفنّيّة كبيرة، فالحافلة هي مسيرة الحياة، والازدحام هو الصّراع على الحضور وإثبات الوجود، محطّات الحافلة هي الأحداث الرئيسة التي يُنتقل فيها من حال إلى حال. واستخدمت التّلوين بطريقة فنيّة، فعند الإشارة الحمراء: “النّاس ينزلون من الحافلة، وهناك من يقذف نفسه من النّوافذ، اللّقاءت كانت تتمّ بين المحبّين عند الإشارة الصّفراء”، وتكون هنا رمزا لوجازة المدّة الزمنيّة، وقصر الفسحة، والاستعداد لانطلاق الحافلة أو توقّفها. “شجر الصّبار والخروع المحيط بالممرّ الضيّق كانت أوراقه رماديّة”، وهذه الأشجار رمز للعوائق.

 وظّفت الكاتبة غطاء الرّأس توظيفا رمزيّا مرّتين، المرّة الأولى كان بلونه الورديّ رمزا للّقاء والحبّ، طيّرته الرّيح فتمكّن من إعادته لها في حديقة ملأى بالزّهور، والمرّة الثانية نسيته على المقعد في الحافلة التقطه ونزل ليلحق بها ولكنّه أخفق في إدراكها وردّه إليها، في المرّة الأولى لم يستطع البستانيّ أن يمنعه من الدّخول إليها، وفي المرّة الثانية كان زوجها يتتبّعه. ويبدو أنّ الكاتبة في هذه الجزئيّة الجميلة متأثّرة بقصّة يوسف وما فيها من توظيف جميل لقميصه في ثلاثيّته: الكيد والبراءة والفرج.

إذن نحن أمام قصّة يترك فيها للقارئ أن يحلّق في رمزيّة ودلالات أبعد من كونها قصّة رجل تتركه حبيبته وتتزوّج بآخر فيلتقيها وزوجها في الحافلة وسط الزّحام. فلك أن تعدّها قصّة ضياع في وسط الزّحام لأشياء كثيرة، وربّما يكون المُضاع وطنا. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمّيّة القصّة التي تتخطّى واقعيتها إلى رمزيّة محتملة مقبولة، وهذا عمق فنيّ دلاليّ، يعكس قدرة الكاتب.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *