هل تستطيع الكتب تقويم اعوجاج السلوك النفسي وشفاء عثراته؟

Views: 366

أنطوان يزبك

 

أُدخل إلى مواقع بيع الكتب، أو إلى المكتبات تقع على تلال من الكتب التي تعرض عليك علاجًا لأزماتك النفسية، وتقدّم لك طرقًا لترميم هزائمك الشخصية ونكباتك العاطفية ووسائل النجاح وطرق القيادة الناجحة وتكوين الصداقات والتواصل الهادف!!

هل هذا ممكن؟

هل من وصفات جدّية لتقوية الشخصية والقدرات العملانية والعقلية والذهنية؟!

هل كل هذه الأدبيات عمليًا تجارة تدرّ على مؤلفيها أموالا وأرباحًا؟

“أما إذا كنت لا تزال تبحث عن الشخص الذي سوف يحدث تبديلا في حياتك، فما عليك سوى النظر في المرآة”…

لا أدري من هو صاحب هذا القول، ولا أذكر حتى أين قرأته ولكن ما أدركه يقينًا أنه قول نافذ، جميل للغاية ومعياريًا صحيح بدرجة كبيرة، ولا ريب أن الحكمة الحقيقية تقول للإنسان اتكل على نفسك، فالنفس الداخلية يجب أن تكون صافية مقتدرة، لا تشوبها شائبة، ولا يجب أن تلتاث بلوثات الحياة النزقة، ورذائلها المنفّرة، فتكون النفس منزّهة عن كل عيب وكل شواذ.

من أين انطلقت موضة الكتب؟

إن الذي بدأ في هذا المبحث في القرن العشرين، هو الشهير “ديل كارنيجي” (1888-1955)، الذي أسس طريقة تطوير الذات، وخلق المناخات المتعدّدة والمفيدة في آن التي تعمل على تحسين الذات البشرية وخلق أيضًا معهدًا لتدريس هذه الطرائق، وقد عرف العالم مؤلفاته البارزة نذكر منها: كتاب “دع القلق وابدأ الحياة”، وكتاب آخر أخذ شهرة عالمية “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس”.

مؤلفات رائعة وأدب جميل، ولكن هل تستطيع فعلا التأثير على الإنسان وتقويم اعوجاج سلوكه النفسي وشفاء عثراته؟ هل تستطيع معالجة العيوب النفسية الوراثية وتحويل الفرد من شخص صاحب عيوب إلى كائن ناجح ومقتدر وكفوء؟

بالتأكيد هنالك من سينبري مدافعًا، وآخر سيشكك بقدرات هذه الكتب وهذه الطرائق التي يحتفي بها الغرب ويعظمها ويعتبرها الدواء الشافي لكل العيوب.

ديل كارنيجي

 

تاريخ المشاكل الشخصية والأزمات النفسية

ربّ سائل عن مسائل التعاطي الاجتماعي وما يترتب عنه من أزمات، هل هو نتاج الحاضر والمجتمع الحديث أم أن له جذورًا في الماضي؟ في الواقع إذا عدنا إلى الماضي، إلى ألفي سنة ونيّف نجد أن مجتمعات الأمس، تشبه إلى حدّ كبير مجتمعات اليوم!

ها هو لاو تزه Lao tse، الفيلسوف الصيني من قبل الميلاد، والذي يقول البعض عنه إنه شخصية خيالية تجمع أقوال عدة فلاسفة في رجل واحد يقول:

“حين يؤمن الإنسان بنفسه، لا يعود محتاجًا إلى إقناع الآخرين.

إذا كان الفرد مرتاحًا مع نفسه، لا يحتاج إلى تأكيد الآخرين.

حين تقبل ذاتك كما أنت سيقبل بك العالم بأسره”.

هذه الحكم إن دلّت على شيء فهي تدلّ على أن الإنسان، في كل العصور، كان مأزومًا تعترضه المشاكل الاجتماعية ويلقى صعوبات في التواصل مع الآخر، إلى حد المواجهة والدخول في أزمات وصراعات، وهذا أمر سائد في كل مكان وزمان وما من مجتمعات طوباوية ينعم فيها الفرد بالحياة المثالية والسلام والهدوء، لا بل يواجه صعوبات شتى، مقلقة ومدمّرة.

وعلى الأرجح أن الإنسان الطيّب والذي يدرك إنسانيته ويتمتع بها هو الذي يتحوّل إلى وردة بين الأشواك وتبدأ عملية الحرب عليه والهجوم والتنكيل والعذاب، مما دفع بجورج برنارد شو إلى القول:

“يستفزونك لكي يخرجوا أسوأ ما فيك ثم يقولون هذا أنت…

لا يا عزيزي هذا ليس أنا، هذا ما تريده أنت مني”!!..

هنري برغسون

 

وجهة نظر هنري برغسون

عدّ هنري برغسون “الوعي” استمرارية “دفاقة”، هو حدس داخلي مباشر وذاتي. يعطي برغسون مثالا على الحالات الانفعالية فيقول؛ إنه في لحظة الانفعال أي في لحظة ما عندما أكون في حالة رعب، لا أستطيع أن أدرس بدقة أو بموضوعية هذا الرعب الذي أعيشه كذلك حالات الغضب.

وإذا أردت أن أدرس ذاتي، بعد أن تزول عوارض الغضب والخوف والرعب والعنف وسائر الاضطرابات، لن تكون دراستي موضوعية وعلمية وحقيقية!..

يبقى السؤال هنا: إلى أي مدى يستطيع  الإنسان أن يتحكّم بسلوكه وأعصابه وغضبه وهل فعلا يستطيع أن يدرّب نفسه ويضبط أعصابه ويكون هو سيّد مواقفه وسيّد ذاته؟!..

ليس سرًا أن الثقافة والقراءة والاطلاع وتدريب النفس إلى جانب التأمل والصلاة والتفكّر، كلها تستطيع أن تبدّل في تصرفات الإنسان التي يصحّ القول فيها إنها “بدائية” غرائزية، ولكن من يعاني من مشاكل كبرى في الاندماج والتأقلم واحتمال الحياة بصعوباتها مع ذاته ومع الآخرين؛ يحتاج إلى أكثر من النصائح وأكثر من مقاربات يجدها في الكتب التي تتناول هذه المشاكل وتقدم حلولا ووصفات لتحسين وشفاء عيوب السلوك ومشاكل الأفراد والمجتمعات.

يقول ديل كارنيجي:

“بإمكانك أن تحظى بأصدقاء في خلال شهرين وأنت تهتم بأمور الناس وتتعاطف معهم، أكثر مما تحظى بأصدقاء على مدار سنتين، وأنت تسعى  لجعل الناس تهتم بأمورك”.

يبدو من هذا القول إن سرّ النجاح هو على الأقلّ أن ينسى الإنسان نفسه وينفتح على هموم الآخرين ويستمع إليهم، مع الأخذ في الحسبان مسألة التقليل في انتقاد الغير عملا بالقول:

“المتعلمون ينتقدون الآخرين؛ أما الحكماء فينتقدون أنفسهم!..”

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال يوجز مسألة يعالجها العديد من الكتب التي تزعم تحسين النفس والتأقلم بفاعليّة مع المحيط، والتي تلقى رواجاً ولا شك؛ إيجاز غنّي بمضمونه ودلالاته، يترك للقارئ أن يستشفّ بنفسه رأي الكاتب النهائي من بين السطور والأمثلة العديدة الواردة.