الفلسفة المعادلاتية وتحليل الحضارة

Views: 906

حسن عجمي

 

     تُعرِّف الفلسفة المعادلاتية الحضارة على أنها معادلة رياضية على النحو التالي: الحضارة = كل الثقافات المتنوّعة والممكنة ÷ الصراعات والحروب. هذا يعني أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات المتنوّعة والممكنة مقسومة رياضياً على الصراعات والحروب. وبذلك مع زيادة وجود الثقافات المختلفة كافة وتناقص نشوء الصراعات والحروب تزداد نسبة الحضارة وتعلو بينما تتناقص درجة الحضارة حين يتناقص وجود الثقافات المتنوّعة وتزداد الصراعات والحروب. من هنا، تنجح معادلة الحضارة في التعبير عن أنَّ الحضارة مسألة درجات قد تزداد أو تتناقص. وبذلك تكتسب معادلة الحضارة هذه الفضيلة الأساسية ما يدعم صدقها. 

 

الحضارة والسلام

     تنجح معادلة الحضارة أيضاً في التعبير عن الارتباط الضروري بين الحضارة والسلام فالحضارة هي المُنتِجة للسلام. فبما أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات المختلفة مقسومة على الصراعات والحروب وبذلك تتناقص نسبة الحضارة في حال تزايدت الصراعات والحروب وتزداد نسبة الحضارة بتناقص الصراعات والحروب، إذن الحضارة كامنة في سيادة السلام بين جميع الثقافات والشعوب وإلا تناقصت أعداد الثقافات وتنوّعها فتناقصت الحضارة وزالت. هكذا معادلة الحضارة تنجح في التعبير عن الفلسفة الإنسانوية القائمة على الدعوة إلى السلام واعتبار السلام أساس الحضارة وماهية وجودها. وبذلك تكتسب معادلة الحضارة هذه الفضيلة الكبرى. 

     إن كانت الحضارة تساوي كل الثقافات الممكنة والمختلفة مقسومة على الصراعات والحروب، إذن كل الثقافات الممكنة والمختلفة تشكِّل حضارة إنسانية واحدة مُوحَّدة لا تتجزأ. لكن كل الثقافات الممكنة تتضمن كل الثقافات التي وجدت عبر التاريخ والتي توجد الآن والتي سوف توجد في المستقبل والتي من الممكن وجودها. من هنا، كل الثقافات في الماضي والحاضر والمستقبل والتي من الممكن وجودها تشكِّل حضارة إنسانية واحدة. هكذا تنجح معادلة الحضارة في التعبير عن وحدة الثقافات رغم تنوّعها. وفي هذا فضيلة جوهرية لأنه تعبير صادق عن الفلسفة الإنسانوية الداعية إلى السلام على أساس وحدة الثقافات فوحدة الإنسانية. وعلماً بأنَّ معادلة الحضارة تتضمن أنَّ كل الثقافات (كالثقافة الشرقية والثقافة الغربية وما تحتوي كل ثقافة منهما من ثقافات متنوّعة) تشكِّل حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية، إذن معادلة الحضارة معادلة سلام. فحين نعتبر أنَّ الثقافات كلها تشكِّل حضارة إنسانية واحدة وبذلك تتساوى كل الثقافات في قيمتها (لكونها جمعاء تُكوِّن الحضارة الإنسانية الواحدة) حينئذٍ لا نتعصب لثقافة معيّنة دون أخرى ما يُحتِّم سيادة السلام بين كل الثقافات والشعوب. 

 

الحضارة كامنة

     من جهة أخرى، بما أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات الممكنة والمختلفة مقسومة على الصراعات والحروب، وكل الثقافات الممكنة تتضمن كل الثقافات في الماضي والحاضر والمستقبل، إذن الحضارة كامنة في الثقافات الممكنة التي قد توجد في المستقبل والتي من الممكن صياغتها وليست كامنة فقط في ثقافات الحاضر والماضي. بذلك، بالنسبة إلى معادلة الحضارة، الحضارة هي ما يمكن أن نبني من ثقافات متنوّعة بالإضافة إلى كونها الحفاظ على ثقافات الحاضر والماضي. وعلماً بأنَّ الحضارة كامنة فيما يمكن أن نبني من ثقافات ممكنة ومختلفة في المستقبل والحضارة ليست فقط ثقافات الماضي والحاضر، إذن معادلة الحضارة تدعونا إلى بناء ثقافات جديدة وتطالبنا بصياغة كل الثقافات الممكنة وإلا سوف نخسر الحضارة. من هنا، تضمن معادلة الحضارة استمرارية تطوّر الثقافات وتنوّعها بفضل إنتاج ثقافات جديدة فتضمن بذلك استمرارية تطوّر الحضارة. وفي هذا فضيلة أساسية تعزِّز صدق معادلة الحضارة ومقبوليتها. 

     إن كانت الحضارة هي كل الثقافات الممكنة مع تناقص الصراعات والحروب، وعلماً بأنَّ الثقافات الممكنة عديدة ومختلفة إن لم تكن لامتناهية في العدد (فمن الممكن دوماً بناء أو التفكير ببناء ثقافات ممكنة جديدة لم نعهدها سابقاً)، إذن لكي نبني الحضارة الإنسانية لا بدّ من إنشاء كل الثقافات الممكنة العديدة والمتنوّعة واللامتناهية عددياً ما يضمن استمرارية بناء ثقافات جديدة إلى ما لا نهاية. هكذا الحضارة هي صناعة الثقافات المختلفة والجديدة كما هي الحفاظ على كل ثقافات الماضي والحاضر. على ضوء كل هذه الاعتبارات، الحضارة فن إنتاج الثقافات المتنوّعة تماماً كما أنَّ الحضارة فن صياغة السلام. 

     بالإضافة إلى ذلك، بما أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات المختلفة والممكنة مقسومة على الصراعات والحروب، والثقافات الممكنة تتضمن الثقافات الجديدة في المستقبل والتي لم ننتجها بعد والمختلفة عن ثقافات الحاضر والماضي، إذن لا بدّ من التحرّر من ثقافات الحاضر والماضي لإنتاج ثقافات جديدة مستقبلية لكي توجد الحضارة وتتحقق. بذلك تضمن معادلة الحضارة التحرّر من سجون الماضي وثقافاته فتضمن بذلك التطوّر الثقافي المستمر. هكذا تنجح معادلة الحضارة في ضمان التحرّر والحرية تماماً كما تضمن التطوّر. وفي هذا فضيلة جوهرية دالة على تفوّق معادلة الحضارة ومقبوليتها. لكن هذا لا يعني أنه لا بدّ من تدمير ثقافات الحاضر والماضي بل من الضروري الحفاظ عليها وتطويرها رغم سعينا لبناء ثقافات جديدة مختلفة لأنَّ الحضارة تتشكّل من كل ثقافات الحاضر والماضي والمستقبل لكون الحضارة كل الثقافات الممكنة والمختلفة. 

 

لا حضارة بلا عدالة

     ترتبط الحضارة أيضاً بالعدالة فلا حضارة بلا عدالة ولا عدالة بلا حضارة لأنَّ الحضارة أيضاً فن إنتاج العدالة. وتنجح معادلة الحضارة في التعبير عن هذا الارتباط الضروري بين الحضارة والعدالة ما يُشكِّل دلالة قوية على صدقها. بما أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات الممكنة والمختلفة مقسومة على الصراعات والحروب وبذلك الحضارة فن إنتاج الثقافات الممكنة والمختلفة كافة، وعلماً بأنه من المستحيل إنتاج الثقافات الممكنة والمتنوّعة بلا حرية ومساواة لأنها ثقافات مختلفة عن ثقافات الحاضر والماضي ما يستلزم وجود الحرية في إنتاجها لتعارضها واختلافها عن ثقافات الحاضر والماضي وما يستلزم أيضاً وجود المساواة بين الجميع ما يسمح للجميع في إمكانية صياغة ثقافات ممكنة جديدة فبلا مساواة تسود العنصرية التي تقتل مقدرة الأفراد على الإنتاج كإنتاج ثقافات جديدة، إذن معادلة الحضارة التي تتضمن أنَّ الحضارة فن إنتاج الثقافات الممكنة والمختلفة تستلزم وجود الحرية والمساواة. 

     لكن العدالة ليست سوى الحرية والمساواة. وبذلك معادلة الحضارة تستلزم وجود العدالة ما يجعل الحضارة فن إنتاج العدالة فبلا عدالة تزول الحضارة لأنَّ الحضارة تتضمن بناء الثقافات الممكنة والمتنوّعة والمختلفة التي يستلزم بناؤها سيادة الحريات والمساواة لتمكين الأفراد من صياغة ثقافات جديدة ممكنة ومختلفة. بما أنَّ معادلة الحضارة تستلزم وجود العدالة لكي توجد الحضارة، إذن الحضارة مرتبطة بالعدالة بارتباط ضروري فلا حضارة بلا عدالة والعكس صحيح ما يدلّ على أنَّ الحضارة فن إنتاج العدالة وإلا انفصلت العدالة عن الحضارة وهذا نقيض أن تستلزم الحضارة وجود العدالة. هكذا تنجح معادلة الحضارة في التعبير عن أنَّ الحضارة فن بناء العدالة وأنَّ الحضارة مرتبطة بالعدالة بارتباط ضروري حتمي. 

 

الحضارة والأخلاق

     كما أنَّ معادلة الحضارة تنجح في التعبير عن أنَّ الحضارة فن إنتاج العلوم والمعارف والفلسفات والآداب والفنون. فإن كانت الحضارة تساوي كل الثقافات الممكنة والمختلفة، والثقافة علوم ومعارف وفلسفات وآداب وفنون، إذن الحضارة آلية صناعة كل العلوم والمعارف والفنون والآداب والفلسفات الممكنة المتنوّعة والمختلفة. هكذا تنجح معادلة الحضارة في التعبير عن الارتباط الضروري بين الحضارة وصياغة العلوم والمعارف والفلسفات والآداب والفنون ما يُعزِّز مقبولية معادلة الحضارة وصدقها. 

 

     تنجح معادلة الحضارة أيضاً في التعبير عن العلاقة الضرورية بين الحضارة والأخلاق. فبما أنَّ الحضارة تساوي كل الثقافات الممكنة والمختلفة ما يستلزم وجود تلك الثقافات المتنوّعة فقبولها جمعاء وإن اختلفت عن ثقافتنا، إذن معادلة الحضارة تتضمن ضرورة قبول كل الثقافات الممكنة والمختلفة واحترامها فاحترام أفرادها وعقائدهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم. لكن الأخلاق أي السلوكيات والقِيَم الأخلاقية ليست سوى قبول كل الثقافات بعقائدها ومعتقداتها وسلوكياتها المختلفة واحترامها فاحترام أفرادها وحقوقهم. من هنا، معادلة الحضارة تتضمن ضرورة سيادة الأخلاق والقِيَم والسلوكيات الأخلاقية وتضمنها لكي توجد الحضارة وتتحقق. بكلامٍ آخر، بما أنَّ الحضارة تتضمن قبول واحترام كل الثقافات لأنَّ الحضارة مجموع كل الثقافات الممكنة، والأخلاق ليست سوى قبول واحترام كل الثقافات فقبول واحترام كل الأفراد، إذن الحضارة تتضمن بالضرورة الأخلاق فلا حضارة بلا أخلاق ولا أخلاق بلا حضارة ما يستلزم نتيجة أنَّ الحضارة فن إنتاج القِيَم والسلوكيات الأخلاقية. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *