ميشيل دوغي واليوم العالَميّ للشعر

Views: 334

شوقي عبد الأمير*

كنتُ في قاعة المجلس التنفيذيّ (حكومة اليونيسكو) في أثناء انعقاد الدورة الثلاثين للمؤتمر العامّ لليونيسكو في العام 1999، حيث كنتُ يَومها مُستشاراً ثقافيّاً لمُدير عامّ المُنظّمة، الإسباني فيديريكو مايور Federico Mayor ومُشرِفاً، في الوقت نفسه، على مشروع “كِتاب في جريدة”.

ما زلتُ أذكر كيف أَطلق المُبادرةَ ممثّلُ المغرب في تحديد يومٍ احتفاليّ عالَميّ للشعر تحت رعاية اليونيسكو، وكيف دار الحوار حول هذا المَطلب، ونحن نعلم أنّ مُمثّلي الدول الأعضاء في المجلس التنفيذيّ ليسوا من الشعراء، ولا من النقّاد ولا من المُفكّرين، بل هُم من الدبلوماسيّين أو الأكاديميّين في الغالب.

لذا لم يكُن الحوارُ حول معنى العلاقة الاحتفاليّة بالشعر، وبُعدها الاجتماعيّ والتاريخيّ، إنّما تمّ التعامُل مع المَطلب كأيّ يومٍ من الأيّام الدوليّة التي تحتفي بها المنظّمة، كيَوم المرأة، ويوم التعليم، ويوم الفلسفة، ويوم المسرح، ويوم ذوي الاحتياجات الخاصّة، ويوم الماء… إلخ؛ بخاصّة أنّ الجميع يَعلم أنّ كلّ أيّام السنة مشغولة، ولا يوجد يومٌ شاغِرٌ للشعر من بين 365 يَوماً في السنة. ومن هنا، لم يَجِد المؤتمِرون يوماً لربْطه بالشعر، إلّا يوم 21 آذار (مارس)، وهو يوم عيد النوروز أو الربيع. وهكذا أخذَ يومُ الشعرِ بُعداً رومانسيّاً بالمُصادَفة، وبحسب ضرورات الجدول الزمني للأيّام الدوليّة.

لكنّنا نَعلم أنّ المُبادَرة الأولى في تخصيصِ يَومٍ للشعر، كانت فلسطينيّة بامتياز. حدثَ ذلك في أيّار (مايو) من العام 1997 في أثناء الاحتفال بمهرجان الثقافة الفلسطينيّة عندما وقَّع الشعراء: الراحل محمود درويش والراحلة فدوى طوقان وعزّ الدّين المناصرة (أمدّ الله بعمره) طَلَباً خطيّاً إلى مُدير عامّ اليونيسكو فريديريكو مايور، يطلبون منه تخصيص يَومٍ عالَميّ للشعر. ولولا أنّ مايور كان صديقاً للشعراء، ومُحبّاً للشعر، حتّى أنّه هو نفسه كان يكتب الشعر (أصدر ديواناً)، لما استجابت المُنظّمة إلى هذا المَطلب الرمزي الكبير.

بالطبع، وكما جَرت العادة، أَطلقت المنظّمةُ عدداً من التوصيات إلى الدول الأعضاء للعمل بها في هذه المُناسبة. وكما نعلم، فإنّ قرارات اليونيسكو غير مُلزِمة للأعضاء كما يُقال، لذلك ظلّت هذه التوصيات مجرّد أفكار عامّة، يُمكن للدول العمل بها أو ترْكها، ومن أهمّها:

– مَنْح اللّغات المُهدَّدة بالاندثار فُرصاً أكثر لاستخدامها في الحياة العامّة.

– دعْم التنوُّع اللّغويّ.

– تشجيع العودة إلى الشفاهية (وفي هذه التوصية نَوعٌ من الغرابة، ذلك أنّها تنظر إلى الشعر بصفته ارتجالاً، أو كَونه مَلمَحاً غنائيّاً في الدرجة الأولى. وهذا الأمر يَعكس ما كنتُ أشرتُ إليه آنفاً من أنّ أعضاء المجلس التنفيذيّ لا علاقة لهم بالشعر، لا من قريب ولا من بعيد).

– توعية المؤسّسات التعليميّة والمَدارس بأهميّة الشعر، وتعزيز حضوره في المَناهِج الدراسيّة القارّة، والمعمول بها.

– دعْم دُور النشر الصغيرة التي تهتمّ بالشعر، وبلْورة صورة جذّابة له في وسائل الإعلام (هذه التوصية على درجة عالية من الأهميّة في ما لو طُبِّقت، نظراً لمَعرفتنا بما يعاني منه الشعر على مستوى النشر والإعلام).

– عدم اعتبار القصيدة فنّاً انتهى عهده (هذه التوصية لافِتة فعلاً، لأنّها تؤكِّد أنّ أعضاء المجلس كانوا يشعرون بأنّ الشعر في طريقه إلى الانقراض!).

هذا من ناحية. من ناحية أخرى، إنّنا نعلم أنّ قرار اليونيسكو في تعيين يَومٍ احتفاليّ عالَميّ بالشعر، لم يكُن أمراً جديداً، فقد سبق أن كانت هناك دولٌ ومؤسّساتٌ عبر العالَم تحتفي بيَومٍ للشعر، لكنْ من دون أن يَأخذ شكلاً دوليّاً، وهو يوم 15 تشرين الأوّل (أكتوبر). وقد اختير هذا اليوم، لأنّه ذكرى ولادة الشاعر الملحميّ الرومانيّ “فيرجيل” Vergilius صاحب ملحمة “الإنياذة”، لكنّ أعضاء المجلس لم يتطرّقوا، ولَو بشكلٍ عابِر، إلى هذا اليَوم في مُناقشاتهم، وعملوا وكأنّهم يؤسِّسون للمُناسبة فقط.. (لا تعليق).

لكنْ ماذا حدث منذ ذلك الحين، وقد مضى أكثر من عقدَين على ولادة “يوم الشعر العالَمي”؟. ماذا أضاف هذا الإعلان؟ وماذا قدَّم؟ لم تقُم المُنظّمة بأيّة إحصائيّة حول (تنامي/ تناقُص) دَور الشعر، لا في الحياة العامّة، ولا في الحوليّات الدبلوماسيّة التي تُعنى بها عادةً.

أكتبُ هذه السطور الآن، فيما يَحتفلُ العالَم بـ “يَوم الحُبّ” أو سان فالانتاين Saint Valantine، وهو يوم احتفائيّ مُستحدَث أيضاً، على غرار “يَوم الشعر”. طبعاً لم يكُن “عيد الحُبّ” معروفاً بهذه الدرجة قبل عقود، إلّا أننا نشهد له حضوراً “انفجاريّاً” غير مسبوق، وقد صار عيداً للبشريّة تَجاوَزَ الحدود الجغرافيّة والدينيّة واللّغويّة والاجتماعيّة، وصار “بطاقة” الجمال للكائن الإنساني فوق سطح الكوكب.

بالطبع ثمّة فوارق جوهريّة بين “يَوم الحُبّ” و “يَوم الشعر”، لكنّ الشعر ينبع من الحُبّ، ولا انفصام بينهما؛ إلّا أنّ واقع الحال، أنّ “يَوم الشعر” ظلَّ في هامشٍ سحيق، بالقياس إلى شموليّة “يَوم الحُبّ” وفعاليّته.

وتلك مُفارَقة يجدر التوقُّف عندها، ذلك لأنّ الجميع يعلم أنّ الشعر هو أوّل سطرٍ خطَّهُ الإنسان على رقيم الصلصال، وقد صار سجلّاً من هواجس البشريّة وأفكارها وإبداعها عبر التاريخ، وهو على الرّغم من ذلك، يُعاني كلّ يوم من هامشٍ يضيق ويَنحسر، حتّى أنّ الكثيرين يُفكّرون بأنّه ربّما سينقرض يوماً ما من حياة البشر، كما رأينا في إحدى التوصيات.

ما السبب في ذلك؟

لم أجد أفضل تفسير لهذه الظاهرة من حديث غاستون باشلار Gaston Bachelard حول الفارق بين الشعر و النثر..حيث يرى باشلار أنّ السرد النثريّ مُرتبط بـ “الديمومة”، وهي ذاك الجزء من الزمن الذي له بداية ونهاية: وهي تمضي بحركة أفقيّة من حدثٍ إلى حدث، من الولادة إلى الموت، سلسلة حدثيّة أُفقيّة تصلُح للسرد والرواية، لا للشعر والتأمُّل. ومن هنا يذكر باشلار أنّ قراءة القِصص مُمتعة في أثناء رحلة القطار. أمّا الشعر، فهو مرتبط بالزمن الكلّيّ المُتّحِدّ/ الدّهر عند العرب أو “الزمن الدائريّ” عند بيرغسون Bergson، أي الماضي/ الحاضر/ المُستقبل في كتلة واحدة، لا بداية لها ولا نهاية؛ وأنّ دَور الشعر، هو استجواب واختراق الكتلة العموديّة من الزمن، ومن هنا، فهو يتطلّب وقفةً لا حركة وأكثر، بل يحتاج إلى قدرة لاستجواب الأحداث، لا للجري وراءها، كما يفعل السرد/ النثر مع الديمومة.

هذه القدرة التي تُفترَض لدى قارئ الشعر، هي التي يصعُب توفّرها اليوم ويتضاءل عدد الناس ممَّن يحتاجون إليها. الشعر يَفترض إذن طقساً من الصمت والنقد. أمّا النثر، فعلى العكس، يمضي في مجرى الأحداث ظلّاً لها.

إنّني أجد تفسير باشلار للعلاقة مع الزمن والديمومة على درجة كبيرة من التفرُّد، وتبعدنا عن الفوارق الشكليّة في الوزن والقافية وما إلى ذلك. لكنْ لا بدّ من قراءة رأي مهمّ لواحدٍ من أكبر شعراء فرنسا الأحياء: ميشيل دوغي Michel Deguy الذي احتُفي بعيد ميلاده التسعين منذ فترة، وهو يَرأس منذ أربعين عاماً أهمّ مجلّة شعريّة في فرنسا هي: Poesie وهو الآن أحد أعضاء التحرير فيها منذ أكثر من عقدَين.

سألتُ ميشيل دوغي (في شباط / فبراير2021): ماذا يعني لك اليَوم العالَميّ للشعر؟

“يومٌ للشعر؟”… ولمَ لا تكون الأيّام كلّها للشعر؟

هناك يوم للعمل، للمرأة، للسلام: كلّ واحدة من هذه المُناسبات تستحقّ أن نُخصِّص لها الأيّام كلّها. المفهوم “الثقافيّ – الاحتفائيّ” (ظاهرة اجتماعيّة كليّة قال بها مارسيل موس Marcel Mauss في حديثه عن ازدواجيّة البنية الاجتماعيّة لمُجتمع الإسكيمو) يخضع أيضاً لمَعايير اليونيسكو في ما يُعرف بـ “كنوز الإنسانيّة”، حيث من آخر هذه الكنوز “البيتزا” الإيطاليّة ووجبة “الكوسكوس” الشمال أفريقيّة.

إنّ هَيمنة “الثقافي” الذي تُديره وزارةٌ مُعيَّنة، هي التي تُشيع فكرة “الشعريّ المقبول”؛ وهنا سيتوجّب علينا أن نُسائِل أنفسنا عن الشكل الذي سيأخذه إلغاء القديم من الثقافة، التي يُعاد ضخّها بعمليّة إنتاج جديدة وليس كمجرّد ردّة فعل.

إنّ هذا المشهد “الطقسيّ – الثقافة” cultuel – culture الذي انبثق من التلاقي المُضادّ، يطالبنا بردٍّ على إمكانيّة فتْح المدى – الغناء chant – champ في ما يُمكن للمُمكن أن يتحقّق.

أتذكّر تلك الأيّام من العام 1968 لـ “مجلّة شعر” التي سبقت إطلاق مجلّة “شعر” Poesie، وهي اليوم في عامها الأربعين عندما كنّا نوزّع دفاتر بيضاء لملء المُقترحات من طَرَفِ “الجميع”، ربّما علينا اليوم أن نوجِّه هذه الأسئلة لمَعرفة الأجوبة عنها.

حول هذه النقطة بالذّات، سنلتقي مع تحليلات برونو لاتور Bruno Latour واستنتاجاته، وهو الذي كتبَ في جريدة “لوموند” يَوم 13-2-2021 : “لم يعُد السؤال هو لمَعرفة ما إذا كان عندنا ما يكفي من المَصادر لاستثمارها، حتّى نُواصِل كما كنّا بالأمس. ولكنّ السؤال اليوم، هو كيف سنُسهِم في قدرتنا على الإبقاء في الإقامة على أراضٍ ننتمي إليها.. “؛ وهذا همٌّ بنيويّ جاء من هولدرين القائل “إنّ سَكَنَ الكائنِ شعريّ، أي ما يعني لنا “البيئويّة – الشعريّة”.

إذاً، إنّ الأمر مُرتبط بكون “اللّغة البدائيّة” المحدودة بطائفة ما، والتي يحرص سوسير Saussure عليها تحت مُناظَرة للعلاقة بين اللّغة والكلام، مهدَّدة بالتفكُّك والتطرّف في حجْم الفوضى القائمة عليه (غونتر أندراس Gunter Anders).

في ظلّ إمبراطوريّة التواصُل والدعاية وعَوْلَمة “لغة السابير” sabir (لهجة مجمّعة من مُفرداتٍ لأكثر من لغة، كانت مُستعمَلة في المُستعمرات الفرنسيّة في أفريقيا)، هناك نوعان من المُقاوَمة، أو بالأحرى آخر نجدة للخلاص يفرضان نَفسيهما هُما:

– التخلّي عن الوعد الحنينيّ nostalgique الرومانسيّ إلى “سحْر الشعر”، وهو ما يَفترض نَوعاً من إيمانٍ جديد، لا يخضع حتّى إلى رامبو نفسه.

– والترجمة التي تحفر بقوّة الفوارقَ بين لغةٍ وأخرى، كلّ منهما غير “قابلة للترجمة”؛ وبذلك تمتلك فرادة كاملة لتبقى مفهومة ويُصغى لها بذاتها، أي كنَوعٍ من بيئويّة شعريّة أو شعريّة البيئة…

وهذه اللّغة المُترجَمة هي غير الكلام، وما يريد أن “يقوله” هذا الكلام يُمكنه أن يُحقِّق الالتصاق الأرخينيّ الذي يُناضِل ضدّ الانبعاث من تحت التراب.

***

*شاعر من العراق

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *