في مسألة الهويّة الثقافيّة ووجودها

Views: 82

د. بسّام بركة*

لقد كثر الحديث في العقود الماضية عن الثقافة وتعريفها، والهويّة وحدودها، وذاتيّة الفرد وبنائها، إلى ما هنالك من الموضوعات التي تختبئ خلف تبيان مكانة الشخص وفرادته في المُجتمع المعاصر. وقد شاع هذا الاهتمام بالهويّة والثقافة لدرجة أنّه انتقل من الدراسات البحثيّة في الأوساط الجامعيّة إلى الصحف والمجلّات واسعة الانتشار. لكنّ فيلسوفاً فرنسيّاً هو “فرانسوا جوليان” انتفض في وجه هذه المَوجة العارمة وأطلق صيحة تحدٍّ جَعلها عنواناً للكتاب الصغير والمكثَّف الذي أصدره في العام 2017، وهو: “لا وجود للهويّة الثقافيّة” (François Jullien, Il n’y a pas d’identité culturelle, mais nous défendons les ressources d’une culture, Paris, L’Herne, 2017).

سنحاول في ما يلي أن نعرض لمضامين هذا الكتاب مع توضيح القواعد الفلسفيّة التي تقع وراء المواقف التي تُعرَض فيه.

الاختلافات والفروق

يبدو أنّ فكرة الهويّة الثقافيّة قد برزت لتكون حاجزاً منيعاً ضدّ العَوْلَمة وما تجلبه من هَيْمَنَةِ النسق الواحد. وهي ليست جديدة في الفكر الأوروبي، بل تبلْورت عند الفلاسفة منذ أكثر من قرنَيْن، وواكبت صعود الذاتيّة في الأدب والمُجتمع؛ إلّا أنّ “جوليان” يرى أنّ الفلسفة، القديمة والمُعاصِرة، تُخطئ في الاستناد إلى بعض المفاهيم بوصفها أساسيّة في نظامها الفكري. من هذه المفاهيم التركيز على “الاختلافات” التي تفصل بين الثقافات وتعزل كلّ واحدة منها عن الأخرى، وذلك بدلاً من التركيز على “الفروق” التي تميّزها من دون أن ترفع الحواجز في ما بينها، والتي تُبيِّن ما هو مُشترَك فيها وما يؤدّي إلى تطويرها وإغنائها.

لذلك، يستعين هذا الفيلسوف بمفهوم “المَوارِد“: ليس هناك، مثلاً، ثقافة فرنسيّة ثابتة، بل هناك مَوارِد ثقافيّة فرنسيّة، مَوارِد تُولَد في اللّغة والبيئة والمُجتمع، ثمّ تصبح شيئاً فشيئاً مِلكاً للجميع ومُتاحة لمَن يشاء تبنّيها. لكنّ ذلك لا ينفي وجود ثقافات متعدّدة، فتاريخ البشرية يُبيِّن كيف أنّ لكلّ شعبٍ ثقافة تولد في مكانٍ محدَّد وتنتشر انطلاقاً من بيئة فريدة وخلّاقة ومن لغةٍ معيّنة، تماماً مثلما حصل في بغداد أيّام العبّاسيّين، وفي الأندلس، وفي أوروبا، لكنّها لم تكُن مِلكاً فرديّاً أو محصوراً بفئة من الناس، بل أضحت مجموعةً هائلة من “المَوارِد” التي يستطيع أيّ إنسان أن يستقي منها ويُطوِّرها. لذلك نرى أنّ الحضارة الإسلاميّة العربيّة لم تبقَ في حضن بلاد الرافدين، ولم تنكفئ بين جدران قرطبة أو طليطلة أو غرناطة، بل انتشرت في أصقاع العالَم المعروف في عهدها، وتغلغلت في كلّ الأوساط العلميّة والفكريّة والأدبيّة، وخصوصاً في أوروبا. وخير دليل على ذلك المفردات العربيّة الموجودة في أصل العديد من الكلمات في الفرنسيّة والإسبانيّة والإيطاليّة وغيرها.

خطر العَوْلَمة

لكنّ هذه المَوارِد الثقافيّة تُواجه أخطاراً كبيرة تتلخّص في انتشار نمطٍ واحد من التفكير، ومن العَيش حتّى. إنّه خطر العَوْلَمة الذي يتوجّب على كلّ إنسانٍ واعٍ أن يُحارب أشكاله التي تكتسح العالَم وتفرض رؤيةً للوجود مبسّطة وتافهة ومقولبة. ومُحارَبة هذه الأخطار تبدأ بمقاومة هَيْمَنة اللّغة الواحدة: “ذلك أنّنا إذا كنّا نتكلَّم لغةً واحدة، وإذا ضاعت الفروق الأساسيّة بين الألسنة، فإنّ اللّغات تفقد إمكانيّة الانعكاس في ما بينها، أي إمكانيّة أن تكشف كلُّ واحدة منها ما في الأخرى من مَوارِد. وسرعان ما نفقد القدرة على التفكير خارج الأنماط المُعولمة نفسها، تلك الأنماط التي تُوْهمنا بأنّ قوالبها الفكريّة الجامدة شاملة وكليّة. الحقيقة أنّ بابل [لعنة تعدُّد اللّغات] إنّما هي فرصة مُؤاتية للفكر البشري” (ص51).

لقد جاء الانتفاضُ في وجه العَوْلَمة في شكلٍ مُعاكس، هو التشبّث بالهويّة والتركيز على اختلافها عن الهويّات الأخرى، بل التركيز على ما يُبعدها عن هذه الثقافات ويُقصيها عنها. هكذا تتحوّل المُطالَبة بالأصالة الثقافيّة إلى أصوليّةٍ عنيفة. لذلك، يؤكّد “جوليان” على ضرورة الدّفاع عن المَوارِد الثقافيّة. كيف يتمّ ذلك؟ بتفعيل هذه المَوارِد والتعرُّف عليها واعتمادها، فالثقافة جامدة ومحدودة، بل “وهميّة” (ص54)، في حين أنّ المَوارِد الثقافيّة متنوّعة وحيّة ومتجدّدة.

امتلاك الثقافة لا تملُّكها

من هنا يُمكن الحديث عن علاقةٍ جديدة ومتطوّرة بين الفرد وثقافته. صحيح أنّ الإنسان يُوْلَد في ثقافةٍ معيّنة ويتعلّم منها ويبني شخصيّته انطلاقاً من مَواردها، لكنّه يتوجّب عليه ألّا يعتبرها مِلكاً له، فيتماهى فيها، ويُجابِه بها كلّ ما هو مختلف عنه، ويتفاخر بها عبر التقليل من قيمة الثقافات الأخرى. الواقع أنّه يستطيع امتلاكها، أي الانتماء إليها مع إفساح المجال لأيّ إنسانٍ آخر أن يمتلكها، وليس تملّكها، أي أنّ عليه عدم الاستئثار بها والاعتقاد بأنّها له من دون غيره.

والمُقارَنة بين ما تُقدّمه الثقافات من مَوارِد، هي ما يُتيح التنوّع في الفكر والغنى في الرؤية. وخير مثالٍ على ذلك اللّغة التي هي مرآة الثقافة وبوّابتها. في اللّغات الأوروبيّة، هناك مفردات متقابلة تعبِّر عن شيءٍ واحد هو بالفرنسيّة paysage. وهذه كلمة وُلدت مع فنّ الرسم، وخصوصاً رسْم الطبيعة، وقد حُوِّلت بذلك “الأرض” pays (في المعنى اللّاتيني لهذه الكلمة) إلى “مَورد” من المَوارِد التي أَصبح يُنظر إليها من أجل أن تُرسم. والكلمة العربيّة المقابلة تعبِّر تماماً عن هذا الواقع: “منظر طبيعي”، أي ما يُنظر إليه من الطبيعة. أمّا اللّغة الصينيّة، فإنّها جاءت بـ”مَورد” ثقافي آخر باعتمادها كلمةً تتكوَّن من جزأيْن: “جبل – ماء” (أو “جبال – مياه”). هنا نرى أنّ المَورِد الصيني الجديد، وهو غريب على الأوروبيّين والعرب، قد حدَّد للمَنظر الطبيعي بُعدَيْن اثنَيْن: “العالي والمُنخفِض”، (يُمكن أيضاً أن نرى في هذا المَورِد “الثابت والمتحرّك”، أو “ما له شكل ثابت وما ليس له”). هكذا، باطّلاعنا على ما في الثقافة الصينيّة من مَوارِد، ندخل في عالمٍ جديد ونضيف إلى رؤيتنا للمنظر الطبيعي أبعاداً ما كانت لتخطر على بالنا لولا امتلاكنا لبعض مضامين هذه الثقافة (ص56).

الصين: ما نَسمع وما نرى

تقول العرب عن الإنسان الذكيّ إنّ لديه “نظر ثاقب”، وهذا يدلّ على أنّنا نمنح حاسّة النَّظر مقاماً أكبر من الحواسّ الأخرى. كذلك، تأتي البصيرة (الإدراك والفَهْم الجيّد) من البصر (الرؤية بالعَين)؛ ثمّ ألا نستعمل مصطلح النظريّة، الذي يأتي من الجذر “نظر”، للدلالة على قضيّةٍ مجرّدة أو مجموعة من الآراء والأفكار؟ تلك هي الحال كذلك في أوروبا منذ زمن الإغريق. كلّ ذلك أدّى إلى تقديم النَّظر على غيره من الحواسّ في أوروبا.

أمّا الصينيّون، فإنّهم يفضّلون تقديم السمع على سائر الحواسّ. يقول “فرنسوا جوليان” في حوارٍ أجرته معه “المجلّة السعوديّة للدراسات الفلسفيّة“في اللّغة الصينيّة المُعاصرة، لنقول إنّ أحدهم ذكيّ، نقول “كونغ مينغ” أي يسمع ويرى، يرى بأذنَيْه. أو يُدرك بهما. وإذا قارنّا بين الحاسّتَيْن لرأينا أنّ النَّظر مكانيّ ومتقطّع: إذا كنتُ أنظر هنا، فأنا لا أنظر هناك، وأنا لا أرى ما ورائي. وأنا أفتح عينَيْ وأغلقهما. فالنَّظر إذاً هو على عكس الشامل والمُستمِرّ. أمّا السمع فهو شامل ومُستمرّ. أنا أسمع كلّ شيء، حتّى ولو كان ورائي. من جهة أخرى، النَّظر يحتاج إلى ذاتيّة الشخص الذي يضع شيئاً أمامه، ويجعل منه حاجزاً لحاسّته هذه، ومُعيقاً لها. فأنا أختار ما أنظر إليه وأستوقفه وأجعل منه موضوع نظري” (في القرآن الكريم ذكْرٌ للسمع والبصر على حدّ سواء، وهناك تقديم للأوّل على الثاني في الآية: “… وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”/ سورة النحل: الآية 78).

هذا مثال على ضرورة أن يكون هناك حوارٌ وتبادلٌ بين الثقافات، ويُمكن الاستنتاج منه بأنّ أهميّة الثقافة لا تكون في ما هي عليه، أي بما في داخلها من قيَمٍ عليا وحسب، بل في ما يُمكن أن تقدّمه إلى الثقافات الأخرى وفي التباعُد المُتفاعل معها. ونستبين هنا الخلفيّة الفكريّة التي تقع وراء فلسفة “جوليان”، وهي: الفكر الصيني، واللّغة الصينيّة، والتركيز على “الما بين”، على البُعد الفاصل بين الثقافات: التركيز لا على كلّ ثقافة لوحدها من الثقافات، بل على الجسر الذي يصل في ما بينها.

الهويّة الثقافيّة لا وجود لها

ولمّا كان ما يُعلّل وجود الهويّة، هو كونها “فرديّة” و”ذاتيّة” (ص58)، ولمّا كانت الثقافة جماعيّة وموضوعيّة، يؤكّد “جوليان” أن لا وجود لما يُسمّى بالهويّة الثقافيّة. “فإذا كان التماهي يتشكّل في مَسار تكوين الفرد (يكبر الطفل بالتماهي مع أبيه، مثلاً)، فإنّ الأمر مُختلف في ما يتعلّق بالثقافة. من ناحية، لأنّ الثقافة لا تنفكّ تتنوّع وتتباين، بعمليّات الانزياح، ومن حيث هي تكوين جماعيّ، وهي لا يُمكنها بالتالي أن تُختصر بأيّ صورةٍ فرديّة (مثل صورة الأبّ) … ومن ناحية أخرى، لأنّ ما يربط الفرد بالثقافة هو بالتأكيد التعلّم والاكتساب” (ص85).

وبالعكس، يكون نتيجة ذلك أنّ الفرد مسؤول عن ثقافته، باستيعابها وبالخروج من ذاتيّته. فالمَوارد الثقافيّة، مثلها كمثلِ اللّغة، تموت وتندثر عندما يتخلّى عنها أصحابُها ويهملون “رعايتها”. وإذا كان هناك مَن يرى أنّ الثقافات تُلغي بعضها بعضاً، فإنّ الواقع هو أنّها تكمِّل بعضها بعضاً. من هنا جاءت فكرة أنّ على أهلها أنْ يستوعبوها، وأن يدافعوا عنها بتفعيل مواردِها.

الثقافة أم “ما بين” الثقافات؟

في أيّامنا هذه التي يتحوّل فيها العالَم إلى قريةٍ مُعولَمة، مُتشابِهة ومُتناسِقة ومُتماثِلة، هل بات الحلمُ بعالَمٍ أخر، والطموح إلى رحلةٍ في ما وراء الواقع الروتيني، أمراً مستحيلاً أو غير مطروح أصلاً؟ يُجيب “فرنسوا جوليان” أنّ عصر “ما بين” الثقافات قد أتى ليكون “مَورداً” يؤسِّس لبُعدٍ عالَميّ جديد ولثقافةٍ أصيلة مُتفاعلة. لكنّ الأمر يتطلّب شكلاً من المُجابهة الشرسة، “مجابهة خطرَيْن مُحدقَيْن يسيران معاً هُما: التنميط الأحادي والتماهي المُتماثل” (ص93).

***

*باحث لبناني وأستاذ جامعي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *