طوابع بريدية لـ “الأمير الصغير”… احتفاء بمرور 75 سنة على صدور رواية دو سانت إكزوبري

Views: 1119

أنطوان يزبك

 

 

-ما معنى التواصل؟ سأل الأمير الصغير،

-إنها مسألة منسيّة كثيرًا، ذلك يعني أن نخلق الروابط، أجابه الثعلب.

                                  من رواية “الأمير الصغير” لـ أنطوان دو سانت اكزوبري

 

في 6  أبريل (نيسان) تصادف ذكرى صدور “الأمير الصغير” سنة 1943، وكانت كتب أنطوان دو سانت إكزوبري ممنوعة من قبل حكومة فيشي؛ بعد مرور كل هذه السنوات تحتفل الحكومة الفرنسية بالكتاب وبـ “الأمير الصغير” من خلال مجموعة طوابع تحمل رسمه ضمن الاحتفالات الفرنكوفونية التي تحتفي بأدب لفّ العالم كما ترجم إلى كل اللغات تقريبًا!

الأمير الصغير بشعره الأشقر المتوهج، استرعى انتباه “الثعلب” في الرواية، تعلّق به وأحبّه كثيرًا، وعندما علم بسفر الأمير القريب، قنط ووجم، وقال له: حين ستعود إلى كوكبك، سأبقى أتذكّرك على الدوام، في كل مرّة أشاهد فيها حقول القمح الناضجة، سأتذكّر شعرك الذهبي المشتعل بالضياء، وسنابل القمح تتهادى تحت أشعّة الشمس الصارخة!…

 

يبدو “الأمير الصغير”، للوهلة الأولى، كتابًا لليافعين، لكن حينما نقرأه بعناية، نرى إليه كتابًا فلسفيًا عميقًا بكل ما للكلمة من معنى، كل ما يرد فيه يحتاج إلى طول تأمّل، يدعونا إلى التفكّر والإطراق، لأنه يحفل بكلّ العواطف وكل الآمال، ويغصّ بالمشاعر الأكثر رقّة، لدرجة نشعر فيها بأن الأمير الصغير ليس سوى ولد أنطوان دو سانت إكزوبري المتخيّل، أم أن الكاتب أراده نبيًّا جديدًا، قدم من كوكبه ليلقي عظات الحكمة ويفتح قنوات المعرفة على مصاريعها، طفل صغير نقي لم تشوّه أفكاره لوثات العالم ولا دخل إلى روعه تناقضات تتحوّل إلى أسباب للضلال والضياع والفجيعة والألم والكآبة!…

من خلال حوارات الأمير الصغير، يطرح الكاتب دو سانت إكزوبري عددًا من المسائل، أهمها موضوع العبثية، هذه العبثية التي استيقظت مع بداية القرن العشرين واشتدّت حدّتها بعد الحربين الأولى والثانية.

في الكتاب مثال صارخ حول العبثية حين يتعجّب الأمير الصغير من المصرفي الذي يمضي سحابة نهاره وهو يحصي نقوده وكميات الودائع في المصرف، ولا يلبث أن يعاود الإحصاء من جديد حيث انتهى الحساب الذي كان يقوم به.

أنطوان دو سانت اكزوبري

 

كذلك يصاب الأمير بالدهشة حين يحطّ على كوكب يسكنه عالِم الجغرافيا، ويبدأ يمطره بالأسئلة: هل في كوكبك، بحار، جبال، صحارى، أنهار، سهول، إلخ…

والجغرافي يجيب على كل هذه الأسئلة:

-هذا ما لا يسعني معرفته.

-فيقول له الأمير الصغير:

-كيف لا تعرف كل ذلك وأنت عالم جغرافي؟

فيجيبه عالم الجغرافيا:

-هذا صحيح غير أني لست من الرواد وليس عندي أحد منهم، فالجغرافي لا يجوب الأقطار ليعد المدن والأنهر والجبال والبحار الداخلية، والصحارى، إنه لا يتلهى بإضاعة وقته في الانتقال من مكان إلى مكان بل يلزم مكتبه..!!

هكذا عبثيات تجعلنا نفكّر كيف تسيطر العبثية على حياة الإنسان في العصر الحديث، ونشاهد كم أنّ أعمالنا التي تأخذ تسعين بالمئة من وقتنا، لا فائدة منها على الإطلاق، سوى إهدار القوى والإمكانات والوقت وتاليًا الحياة، كما في مسرحية أوجين يونسكو “الأمثولة” La Leçon  حيث يمضي أستاذ الرياضيات وقته محاولا تلقين تلميذة شابة أصول الحساب والرياضيات!

 

غاب أنطوان دو سانت إيكزوبري حين اسقطت طائرته في البحر ودُفن معه لغز الأمير الصغير، من هو ومن أين أتى؟ ولماذا كتبه دو سانت إيكزوبري بهذه الطريقة، تساؤلات كان من الممكن أن يجيب عليها لو بقي حيًا.

على كل حال يبقى الأثر الأدبي ليشهد على أفكار الكاتب، وعمق الأثر الأدبي في تاريخ الثقافة لا يزول لا بل يتطوّر ويتقدّم في ذاكرة الشعوب المتطوّرة المُحبّة للمعرفة والحافظة لفكر وآثار عظمائها.

تبقى مسألة العبثية، وكيفية التعامل مع ما تسوقه إلينا من أسئلة وإشكاليات أهمها: هدف الحياة، موقف الإنسان من الوجود وماذا أتى يفعل على هذه الأرض طالما سيغادرها، حاول الأمير الصغير استجلاء بعض هذه الأسئلة بيد أنه رحل ولم تتوضّح صورة الوجود، أو حتى نفهم ولو نذرًا يسيرًا من طلاسم هذه الحياة!!..

يقول تيودور دوستويفسكي:

“إن أفظع ما في الأمر في نظري؛ هو أنني فهمت كل شيء”.

أما ونحن في ذروة المعرفة نشعر بأننا ما عدنا نفهم كثيرًا ما يحصل في حياتنا، وما عاد هناك من يتحمّس ليفهم؛ أو تحديدًا يتجاسر ليدرك حقيقة معرفته…

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال جدّ مميّز ومؤثّر، كأنّه قصّة كتبها أنطوان دو سانت اكزوبري بنفسه، مع اللمسات الهادفة المضيئة للأستاذ أنطوان يزبك بالطبع!
    تحية تقدير لك!