قراءة في قصة “كائن محيّر” لـ هدى حجاجي

Views: 653

العراق- الناقد حميد العنبر الخويلدي 

 

كائن محيِّر

«زواج نورهان حسم الأمر، وجعلني أقدم على قرار الطلاق بسهولة.

أخيرا، وبعد ثمانية عشر عاما يمكنني أن أنعتق. أن أتنفس بحرية. أن أتحرر من هيلمانك وسلطانك.

لم يكن بوسعي أن أرفضك حين تقدمت طالبا يدي. طبيب شاب لا غبار عليه. لم أكن أستطيع أن أقول إنني أريد أن أتم تعليمي وأحقق ذاتي. بعدها تحركت نورهان في أحشائي. مسؤولية البيت لم تكن ثقيلة. زوجي يوفر لنا كل شيء: الخادم والطاهي والسائق.. لا شيء يشغلني إلا ابنتي. في البدء كنت أقدر له إحساسه بالمسؤولية، فهو الذي يمسك زمام الأمور. نزهة الصيف هو الذي يقررها.. مدرسة ابنتنا.. كنت في البداية أقدر له هذه التصرفات. لكنني بمرور الوقت أصبحت أضيق بحياتي. لقد تحولت إلى تابع له، كيان لا يمكنه التصرف بمعزل عنه.

من أجل نورهان تحملت كل شيء. هي المجال الوحيد الذي جعلني أشعر أن حياتي لم تضع هباء. لا أنكر أنني حزنت لقرار زواجها المبكر. أردت أن أجنبها مرارة تجربتي. أردت أن تتم تعليمها وتختبر الحياة قبل أن تلقي بنفسها في دوامة الزواج والأبناء. لكنها صممت. وهكذا ذهبت. وهكذا انتزعت الطلاق بعد ذهابها. صممت على النجاح. ومكتب الديكور الذي افتتحته بدأ يعمل بشكل يدعو للتفاؤل.

***

قابلته حين أقمت في أحد الفنادق. شعرت به يحاول جذب انتباهي. جاءني وبكل جرأة يطلب مشاركتي في مائدة الغداء. أحرجني فلم أستطع الرفض. بعدها انكسر الحاجز. لم نعد نفترق سوى ساعة النوم فقط.

انبهرت بشخصيته. كان بالضبط كما أريد. فشل زواجه لأن زوجته كانت تريد أن تصبح نسخة منه. يا لسعادتي. أخيرا وجدت الرجل الذي لن يجعلني مجرد تابعة له. ولأن أعمالنا متقاربة فقد ساعد هذا علي كثرة لقاءاتنا، فهو مهندس وأنا في مجال الديكور. كل منا يكمل الآخر. أسعدني أنه لا يحاول أن يجعل مني شخصية مكررة منه، إنه يتركني أقود سيارته وهو يجلس بجانبي. قررنا الارتباط. كنت منهمكة في إعداد عش الزوجية الذي وقع علي عبئها بالكامل. حتي اختيار الأثاث تركه لذوقي. كنت سعيدة بأسلوبه معه، حتي حدث ذلك الموقف التالي:

***

عندما حضر من عمله وما زال العمال ينهون أعمالهم وقتها تضايق بشدة لأنه يريد أن يرتاح. انتابني القلق للحظات. لماذا يثور وهو لن يفعل أكثر من أن يذهب إلى حجرته ويغلق بابها؟ فهل هو مرهق حقا أم أناني؟

الأقدار رتبت الإجابة. احتاج العامل بعض المواد التي لا بد من إحضارها في السيارة. رفض أن يصحبه وأصر أن أذهب أنا! لحظتها راجعت في عقلي كل تصرفاته. هل اندفعت في تقديري له؟ هل كان يستغل نشاطي لصالح أنانية؟ هل يريد أن يتزوج امرأة يحملها كل الأعباء ليتفرع لعمله وراحته؟

أهذا الذي تركت زوجي السابق لأجله؟ أتذكر الآن أنه كان يحثني على استكمال تعليمي. أتذكر أنه كان يحاول أن يرعى نورهان، وأن يحضر لها مربية ولكنني رفضت.

هو لم يجعلني تابعة له ولكنني أردت هذا.

***

أسبوع كامل وأنا أتصرف كالمراهقين. أدور حول بيتي القديم بسيارته. أدير رقم الهاتف فيجيبني صوته ولا أرد. أستعيد حياتي القديمة معه. كم كان رجلا رائعا. كيف أضعته من يدي.

كالعادة أدير رقم الهاتف، لكن صوته يأتيني هذه المرة محملا بالحنين: «وحشتيني يا مجنونة».

                                                                                                                             هدى حجاجي

 

الكتابة الابداعية

*”المبدعُ موعودٌ منتظَر/تسكنه المناطرة ويسكنه الترقّب”  

لو تأمّلنا أيَّ قصّة او روايةٍ وحتى المُقامَة كفن مختلق واي عمل آخر من الفنون، نجدها كُتِبَتْ مرتين، المرة الاولى كتبها قلمُ الوجود وشكّلها تصويراً وتعبيراً مادّييْن، عبر افرادها وعناصر خلقها وموضوعتها وفق ضرورة الحال والمآل يوم ذاك وما خطر، هذا لو اردنا الواقعي الموثوق به بعيداً عن مدارس الخيال وتسخيرها اللفظي وبناته، ولأنْ ذلك المتمثّل سلوكاً دِثارًا بكمّه ونوعه، مختزناً بخانات ورفوف الوقت والمكان وبمثل ما اقترن بمسمّياته وعناوينه في الطبيعة حتى يظهر للعرض، لايستطيع ايُّ احد ان يراه او يعثر عليه، ينفيه او يمحوه ولا حتى ان يضيف عليه ولا يزيد او ينقص، انما هي صورة ثَبُتَتْ، ونقصد القصة او الرواية انطبعت ودخلت طور نشورها الاول كتابةً وظفراً في الكوني، الى ان تنتظر طور نشورها الثاني وهنا الاساس واصل البعث والباعث، هنا الولادة الحقيقية بعد الولادة البكر تلك وهذا دور يقوم به المبدع للشي المحدث كتابةً اخرى ابداعية، 

وهكذا هم افراد النص في المقطع الأول كيف تَحرّكوا وكيف طبعوا بصماتهم المادية على سبورة الواقع، هذا اولا الطبع وأول المناطرة والترقب مع الكاتبة هدى حجاجي، أمها التي تروي، أو قل بطلة القصة، والشاب الطبيب ذو المستوى الاكاديمي المميز، والذي عقد عليها وتزوجها وباتت حليلته، واذا بها تخبره أنّ ثالثاً مقبل في احشائها، هذا في الواقع، ، يعتبر أول نشور مادي دفعت به الضرورات، واذا بها نورهان والتي اعطت زخّةً للمشهد، وعلى موعد جميل من المخاطرة الحسية والتي حازت على محرضها الداخلي وقد يكون خارجياً كما هو موعود بالربط الضمني، حيث تكرار الحدث بلَمّه وجمعه من جيوب الوجود وهنا الضربة المنتظرَة من قبل ال، فنان، وكما ذكرنا اعلاه ان كل عمل قصصي كتب مرتين وبيّنّا عن الاولى، وهذا تبيان المرة الثانية 

لكتابته، بأنْ ياتي المُنْتَظَر وهو المبدع الفنان الموعود والواعد بهَدْي الاشياء الى منصّاتها ايّ الاشياءالمسندة لان تكون وتاخذ دوراً في صنع الحياة الموجبة حياة الخلود في اوراق البهاء الاعتباري، ، ليُصَيّرَ النص ثانيةً ويدفع به نحو نشور اصيل، لاشكّ فيه ولاتثريب، فيكشف عنها غبار الصمت والسبات، واذا بها حياة جديدة اخرى تعتبر معطىً ملهماً ننتظره، ، 

وعلى سبيل المثال نذكر ان روايتي “البؤساء” لفكتور هيجو، ورواية “اولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، كانتا قد دخلت نشورها لمرتين، النشور الاول في آباط الوجود اذ مثّلها افراد على غِرِّ عادتهم، ودون قصد منهم انما هو على طريقة  “واسعَوا في مناكبها” وكيفية تَحرّكهم بزمكانهم يحركهم القدري حتماً، وهو يعلم يقيناً من انْ ظاهرةً ستُحْدَث آجلاً اذ يأتي الدورُ المُوجِب للنشأة الجمالية وقد يأتي حتى ولو لالف سنة تُنْتَظَر او مادامت وحدة الوجود في بقائها، وجِيء بها في نشورها الثاني وهو بعثها الاصل، ومن هنا تبزغ استنارة الذات المبدعة، لتأخذ دورَها الباعثَ في جني جماليات السلوك الخام او السلوك الممسرح والذي كما ذكرنا مُثّل على ظهرها وفق مراحلها العفوية ومراحلها المنظّمة.

ويتجلى لنا ومن خلال هذا المنظور البسيط، ان كل الابداع الفني عامةً مُبْتَدَعَهُ الذي أُنجِزَ وظهر في العرض، او مُلْتَحِقَهُ المستتر في جيوب الوقت ريثما يظهر، هو طيف نظيف عابر من شمس المناطرة والترقّب بين الناص والمنصوص المحدث في حينه او غير حينه حتى لو امتد الزمن وبقي غائباً او ظهر، ولعل المُتَأمَّل الابدي والمرتقب هذا في حججنا ونهوجنا اليقينية منها طبعاً ولا مستغرب هناك، انما نستدرك هنا وبايمان قاطع، على الفكرة التاريخية، ونقول انّ كلَّ مبدعٍ موعودٌ، في حقيقة وجوده، وفي نفس الوقت منتظِرٌ ومنتَظَرٌ في ذاته وارتباطاته، وكذلك بحدود  تجلياته ليس إلْا، وحسب معيارية طاقاته وصنوفها في مستويات الذروة والاعتبار، فهو موعودٌ بالنص لو كان النص هذا يحمل بُعْدَه الرساليَّ للارض والناس مثلاً، وكما وردت الصحف والكتب السماوية المعتبرة فضلاً عن دور مرسليها بها، وهذا اجراء غيبي طبعاً، سيما وهو من اشارات النهج الذي سرنا عليه في فهم طريقة اصحابنا في الحقيقة والمكاشفة فالانبياء وكتبهم السماوية مثلا، كانوا في وحدة ترقب ومناظرة مع النصوص حتى جاء موعد بزوغ الدعوة، واعلان الاعجاز الاقناعي، هذا من جانب، ، ومن جانب آخر في مستوى الابداع الفني، فالعظيم السَّيّاب كان موعوداً بانتاج وابتكار حداثة الشعر الحر ومدرسته العظيمة، كمنعطف جديد يخدم غرض الادب العربي ومصنّفاته، بهذي المرحلة المعاصرة وهنا ضرورة قدر مؤجلة حتى حان وقتها فتفعّلتْ،  وكان مُنتَظَرا بها ولها في نفس الوقت من قِبَل ذات النتاج والفعل، ومن قِبَل امة بذاتها وتاريخها واجيالها، ، وكلُّ فنان عظيم مشمول بالفكرة هذي وبالناموس التنظيري الذي نطرح، منهم مَنْ سبقَ وتحقق، ومنهم القادم والمنتظر كذلك ليتحقق. 

الناقد حميد العنبر الخويلدي

 

النمط النهجوي التكويني

هكذا نفهم في الكيفيّات، دينامياً وجدلياً، قصة “كائن محير” حكمتْ حالها باحكام من هذا النمط النهجوي التكويني، ففي بعدها المادي تكشف لنا عن أنّ افراداً مروا من هنا، ومثّلوا سلوكهم المثالي اذ تركوه مودعاً في جيوب الوجود، ومضوا، ولانستطيع ان نحكم ايْنيّاتهم المكانية، انما هي التائهة المفتوحة المصاريع، حيث الكاتبة /هدى/ لم تحدد خريطة المكان بموقع ولاعنوان ولاحتى بزمن تاريخي معين، قد تستطيع خلاله تأشير هذي الحيثية، وهذا قد كان مقصودا من قبل المبدع، استمكن حال قصته وهو يلُمُّ شتاتها فغضْ نظره عن تعيين اتجاهات جغرافيا الفني، وترك الحبل على القارب سائباً، اعجبه ان تكون للريح والشراع حكايةً وصحبة، او نؤشر على الكاتب عيباً، فلعل كل عمل فني بديع لابد من هوية مكث وارتباط، كي نعرف المزاجية والقيم الموروثة المحيطة، لتتخالط التجليات المساهمة بين المحدث الجديد والمُذْخَر الذي ينتظِره ردحاً.

 وكما في منظورنا النقدي اعلاه، النص بين موعوده ومنتظره، هكذا هي المودعات والمحدثات في مراحل تصيّراتها وتصويراتها، فالاديبةُ القاصّةُ لو ارخينا مصراع المبادرة التطبيقي لقصتها وعلى هذي الامثولة، لقلنا انها كانت ونتاجها مترابطة برباط المناطرة والترقب، النتاج يتنطّر مبدعَهُ فيراه، حتى ولو كان شتاتاً انما له ماهية كلية تبصر، والناصُّ المبدع كذلك في وحدة ترقّبٍ مع نتاجه حتى ولو لم يحن وقته، ، كل نتاجات المبدع المحسوبة على وقته النظيف، هي محمولة معه كلٌّ بطبيعتها حيث التنزيل والتقسيط، في هبوطها للصيرورة… 

القاصة هدى انتجت كثيرا قبل، وانتجت هذي القصة (كائن محير) وستنتج بعدها ما استدام مكانها اكيد، كلُّ هذا الموجود هو مترابط معها كترابط العنقود للشجرة، وحسب موسمه وظرفه ونكهته ومزاجه،حتى تتنزل المنصوصات تباعاً، نثبت انَّ وحدةً من الترقّب والمناطرة بين ابداعات المبدع وذاته، ، مترابطة كترابط حلقات السلسلة الذهبية باتقان لاينفك ريثما يأت دوره، ولعل المبدع دائماً وابداً يهجس محمولاته التي في كنفه ماظهر منها وما بطن، فهي محط أُنْسِه ومحط كماله الجمالي الفني، بل هي معدل طاقته الدافعة والتي تحثه وتتحرك به، حتى تنفذ الشرارة والاستنارة، عندها يصبح خاليا وفاضه، ولايشتعل أُجاقه، ، ويتحول الى انسان يختلف عن مبدعه، انسان من العوام. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *