أحمد الأمين.. وداعاً!
فيصل طالب
كيف لصهيل الأصالة أن يصمت في موكب الخيل المتحمحم في مفازات الوعد الذي تسنّم باكراً صهوة الشوق إلى خلخلة قواعد العرف السائد، على هَدْي الاستشراف الرؤيوي وقوّة الدفع القلقة، في مسار الحلم بالتغيير؟!
تعرّفت إلى نبض هذا الصوت طالباً ووجْهاً بارزاً من وجوه العمل المطلبي في دار المعلّمين والمعلّمات بطرابلس في أواخر الستينيات، وقد كان هادراً صارخاً، أنيق الكلمات، جهوري النبرة، ساطع الحضور، نافذ التأثير ، يختزن دينامية لافتة لا يضاهيها غير إيمان عميق بصدقية المحمول وصوابية المطلب. وازدادت بعد ذلك معرفتي بالدكتور أحمد الأمين في اللقاءات والمناسبات المرتبطة بمسارات الحياة الثقافية في طرابلس. وبعد تعييني مديراً عاما للثقافة تعمّقت معرفتي به من خلال مشاركته في بعض اللجان العاملة في نطاق المديرية العامة للشؤون الثقافية، وعضويته في الوفد اللبناني إلى بعض المؤتمرات الثقافية في العالم العربي، حيث نشأت إثر ذلك صداقة بيننا حماها دائماً من الضعف والتلاشي سياج قوي من الود والوفاء.
أحمد الأمين واحد من طليعيّينا الذين حاولوا مقاربة الواقع بحساسية إدراكه في ساحة الحضور الفاعل الحي، والذين أيقنوا أنّ الحبّ والخير والجمال أقانيم الوجود الإنساني الذي لا تسطع شمسه بغيرها، والذين وجدوا في الفقر والقهر والظلم والعسف موضوعات تستحق النضال من أجل التغلّب عليها، في بلاد لا تُوضعُ نقاطُ الإحقاق على حروف الحقوق إلّا إذا سعى أصحابها إليها، وعملوا على تثبيت ركائز الوعي في وجه التخلّف والجمود، وزرعوا بذور الأمل بحتمية التقدّم والتغيير، مهما لفحت وجوههم ألسنة الهجير، ونالت الأشواك منهم ألماً.
عرفت الدكتور أحمد دمث الأخلاق، كريم النفس، وقّاد الذهن، عميق الإحساس، طيّب السريرة، لطيف المعشر، كاريزمي الحضور، يختزن إرثاً غنياً من العمل الجاد والملتزم بقضايا الشأن العام . برحيله نفتقد وجهاً آخر من وجوه زمن جميل تزداد قناعتنا بجماله كلّما “أتحفنا” هذا الزمن البائس برزاياه التي لا تنتهي.
عندما يرحل أعزّاء عن هذه الدنيا، فإنهم يأخذون معهم مفاتيح المسرّة ويقفلون علينا أبواب الاغتمام والحسرة، ويتركوننا نهيم في ضباب الصمت العابق برائحة الفقد والخسران، في ظلال الأوقات الباردة والباهتة والضَجِرَة.
أبا هادي .. إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإنّا على فراقك لمحزونون!
