في البدء كانت التربية!

Views: 987

أنطوان يزبك

 

“إن الشخص الذي يهمل التعليم، يسير أعرج حتى نهاية حياته” (أفلاطون)

 

يقول أديبنا اللبناني الكبير “مارون عبود”، إن الوطن لا يبنيه غير المدرسة، وهذا الكلام هو خلاصة الفكر وزبدة العلوم. أمضى مارون عبود حياته وهو يدرّس ويؤسس المدارس في كل أرجاء لبنان، أقام في عدة مناطق وهو يعمل بكدّ في مجالي التعليم والتربية، يحلم بوطن يسكنه المثقفون والمتعلمون المتنوّرون إذ كانت المدرسة بالنسبة إليه شغفًا وترهبًا، بالإضافة إلى تأليف الكتب ووضع الدراسات!

خاض مارون عبّود كل مجالات التربية في عدة مدارس، وهذه الخبرة الواسعة لديه أفضت إلى كتاب هو “آخر حجر”، الذي يحمل في صفحاته كل ممتع ومفيد وأدعو الجميع إلى مطالعته، وضع مارون عبود هذا الكتاب في أواسط القرن الماضي، وصدقوني أنه لا يزال حتى يومنا هذا، بعد كل هذه السنوات، يحاكي واقعنا ويلائم زماننا وتنطق ملاحظات مارون عبود، على ما نراه اليوم في مدارسنا وما نشاهده في يومياتنا التربوية. 

مارون عبّود

 

هذا الكتاب يطرح إشكالية كبيرة، ويضعنا في موضع التساؤل، لماذا لا نتغيّر، ولماذا شعبنا جامد مثل “الحجر”، نتوارث تقاليدنا وتصرفاتنا من دون تقدّم أو تحسّن، كما لو أننا أصنام أحفاد أصنام؟

في كتابه “آخر حجر”، يصف مارون عبّود بصدق التلامذة والأهل والمدارس والإدارات التي لا تنفكّ تتباهى بقدراتها السوبرمانية الجبّارة على صناعة التفوّق واختلاق تلامذة جهابذة، وكأنها تمتلك الترياق السحري العجيب المدهش الذي يحوّل الكسول إلى مجتهد، والغافل إلى نبيه، والغبي إلى ذكي، وعديم العقل إلى نابغة العصر أو أينشتاين جديد!!…

ومنذ خمسينيات القرن الماضي يتحدث مارون عبود عن المدارس التي تسوّق لنفسها بـ 99% نجاح، فيتحوّل العلم إلى بازار وتجارة وتجاذبات تدخل فيها المحسوبية والواسطة والسياسة وكل شيء!!

أما الحقيقة الناصعة الواضحة، فهي في غير مكان وقد غفل كثر أو أغفلوا أنفسهم عن رسالة المدرسة ونهجها واستراتيجيتها الأساسية. 

المسألة الأساسية في التربية والتعليم تكمن أساسًا في المرجعية العلمية، خاصة في كون التربية مسؤولية أخلاقية قبيل كل شيء، مسؤولية أخلاقية، وطنية، وإنسانية كبرى تتطلّب إعدادًا فائقًا للمعلّم والمتعلّم على حدّ سواء، ولا يطال هذا الإعداد مادة التعليم فحسب، التي هي من ضمن اختصاص كل أستاذ، بل هي حلقات متّصلة بعضها ببعض، تتناول الفكر والمعرفة والفلسفة والأخلاق، بالإضافة إلى العلوم التي من دونها لا يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه في الحياة. 

 

لقد صنع الصينيون، مثلاً، في الماضي حضارة راقية للغاية وذلك من خلال التربية والتعليم، باعتمادها على علوم المنطق والفلسفة والرياضيات والزراعة والطب والفلك، وبعد مرور قرون  ما زلنا نلاحظ في الشعب الصيني، حتى يومنا هذا، بذور التربية الراقية والهادئة التي استلهمت تعاليم أهمّ الفلاسفة على غرار كونفوشيوس، لاوتزي، ومانشيز الذين تداركوا أهمية الأخلاق، فأدخلوها في مناهج التعليم وتهذيب النفس والتأمل والهدوء والصبر والحكمة واتزان العقل. 

قال كونفوشيوس في هذا الصدد: “لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلّم كيف يفكّر”. 

هذه هي إذن القاعدة: التفكير في سبيل المعرفة إذ على الإنسان أن يتعلّم كيف يفكّر من خلال ضوابط وأصول وتقنيات تفتح له الآفاق وتلقنه أصول المعرفة وتدرّبه على تحصيلها. 

عرفت التربية الدكتورة ماريا مونتيسوري وهي مربّية ومدرّسة ذات شهرة كبيرة عالميًا، وقد كانت السباقة في اتباع المنهج العلمي في التعليم وذلك من خلال الاستعانة بالملاحظة والمراقبة والتجارب، معتمدة على دراسة تطور الأطفال وآلية تعليمهم. 

وفي ما خصّ الأطفال تقول: “يجب أن يكون هدف التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة هو تنشيط رغبة الطفل الطبيعية في التعلّم، وليس بإكراهه على التعلّم”. 

د. ماريا مونتيسوري

 

وبنظرة سريعة إلى ما يتعلّمه التلميذ اليوم: هل نجد ما يدفعه إلى حب الاستكشاف والشغف بالعلم والمعرفة؟

أيعقل أننا لا نزال ندرس كما درست الأجيال من قبلنا منذ عقود بعيدة؟ لقد صارت المناهج فعلا في الماضي وحان الوقت لاستبدالها! وباتت الهاوية كبيرة بين محتوى المناهج ومكتشفات العصر في الميديا ووسائل التواصل وأصبح عسيرًا أن نحدّد ما الذي يستطيع اليافع أن يشاهده على مواقع التواصل ومحرّكات البحث. 

مع الأسف الشديد، ما تفعله المدرسة اليوم هو أنها تعدّ طلابًا، لاجتياز الامتحانات ومتى فعلوا ونالوا الشهادة الثانوية العامة، لا يبقى في أذهانهم شيئًا مما تعلموه، ليُستعمل لاحقًا. 

أُوجد التعليم ليتطوّر الإنسان، لكن مع الأسف، تحوّل المتعلّم إلى قنبلة موقوتة معدّة للانفجار في كل حين، إنسان يتبلّد ويتسطّح فلا يرتفع ولا يتعلّم كيف يسمو بل يردّد  ما تلقّنه، ألم يكن من الأجدى لو أُدخلت مادة إدارة الأزمات في مناهجنا وخاصة في هذه الأيام الحالكة، لكان التلميذ تعلّم شيئًا مفيدًا قبل الخروج إلى المجتمع الحقيقي مع صعوباته وتناقضاته!!..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *