أكي دنيا

Views: 614

د. جان توما

 

كانت تقوم شجرة” أكي دنيا” في تلك الحديقة الصغيرة المجاورة للبيت القديم الذي تتهاوى حجارتُه كما تهاوى بَشَرُهُ، ودخلوا عالم النسيان.

تتساءل كيف كان عامرًا، وأهله معجوقون بالحياة، بحلوها ومرّها. أين رحلت هذه الوجوه التي كانت تطلّ من المشربيات المغلقة؟ كيف ارتحلوا؟ وإلى أين؟ كيف ضاقت الدنيا بهم وكانت تتسع لأحلامهم؟

تركوا ديارهم وبيوتهم وأشياءهم الصغيرة، ومضوا مع دمع العينين وجرح الذاكرة. وضّبوا ملامح من أحبّوا في علب خيالاتهم، وأخذوها في صدورهم جرحًا مفتوحًا، يرافقهم في ارتحالهم وعند مشارف رحيلهم.

كيف أغمض المهاجر الأوّل عينيه عند عتبات آخرتِه؟ بمن فكّر؟ بماذا تمتم؟ كيف ارتسمت شجرة” أكي دنيا” في مسرى حياته؟ ماذا تركت هذه الشجرة في باله:” كل شي تخزق، ع المقعد الأزرق، ع القمر الأزرق” ويعرف:”وان كان ما في شي، من حبنا باقي، بتسكت الساقي، يا طير، وبتمشي”.

كانت زهرة “الأكي دنيا” تزهر في ذاكرته كل أيار، فسمّاها ” زهر أيار” لتبقى حكاية وجع. يذكر شيطنته كيف كان يقطف حبّاتها في الأول من أيار ويطعم المارّة تبركًا. زعل على شيطنته التي تركها على أغصان شجرة “الأكي دنيا” في تلك الأيام، وتوجّع حين تذكّر كيف حفر اسم من أحبّها على جذعها. ماذا صار بصاحبة الاسم؟ لم ينس ابتسامتها ولا غمزتَي خدّيها. أخذه السفر وأنهكه التجوال.

ظنّ أن من خرج من هذه الشجرة ” الأكي دنيا”، وتعني من التركية: “الدنيا الجديدة”، سيملك دنياه، لكن لم يبقَ له إلا وجوه أولاده وأحفاده في غربة تردّه كلّ صباح إلى تلك “الأكي الدنيا” التي تبقى دنياه الأولى وعفويات البدايات.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *