“مؤسَّسة الفكر العربيّ” في مُواجَهة أخطر أنواع الفقر

Views: 821

د. وحيد عبد المجيد*

 

فقر الفكر هو أخطر أنواع الفقر، وأكثرها أثراً في حياة البشر والجماعات والشعوب والأُمم. وكان الكاتب القصصيّ والروائيّ الكبير الراحل د. يوسف إدريس أحد أبرز الروّاد الذين أدركوا أنّ الفقر ليس ماديّاً فقط، بل فكريّاً أيضاً. وردت هذه الأطروحة في كِتابه: “فقر الفكر وفكر الفقر” الصادر عام 1985. فبعدما تأمَّل “ما صارت إليه حياتنا، وما تصير إليه”، أحسّ أنّ عليه أن يُقدِّم للناس كتاباً عمّا سمّاها ظاهرة فقر الفكر وفكر الفقر، أو الفقر في الأفكار على نحوٍ يؤدّي إلى فقرٍ في الحياة والإنتاج، والعكس، في دائرة جُهنميّة مُفرغة. وعَّرف الفقر بأنّه ليس وضعاً اقتصاديّاً فحسب، بل وضعاً يتصرَّف فيه الإنسان بفقر، ويُفكّر بفقر، وأنّه مرضٌ لا يُصيب الاقتصاد فقط، بل يُصيب العقول، ويُصيب الخيال أيضاً.

ومع ازدياد الاهتمام بمسألة فقر الفكر في العالَم العربي، وتناقُص المؤسّسات والمطبوعات الفكريّة، واختفاء معظم ما أُسِّس أو صدر منها بين أربعينيّات القرن العشرين وسبعينيّاته، اهتمَّ مُعدّو تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة بهذه المسألة، منذ بداية إصداره السنوي في مطلع العقد الأوّل من القرن الحالي، بعد عقدٍ ونيّف على ظهور تقرير الأُمم المُتّحدة عن التنمية البشريّة.

ولكنّ إنشاء “مؤسّسة الفكر العربي” في العام 2000، قبل أشهرٍ من بدء العمل في تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة، كان التعبير الأكثر وضوحاً عن بداية إدراك مغبّة تراجُع الاهتمام بقضايا الفكر في العالَم العربي في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين.

وكان دَور “مؤسّسة الفكر العربي”، منذ تأسيسها، بمثابة استجابة مباشرة وشاملة لتحدّي فقر الفكر، من خلال هدفها الأساسي، وهو نشْر المَعرفة، والتحفيز على الإبداع، وتعزيز ثقافة الابتكار والتطوير، انطلاقاً من رؤية تُعلي شأن الحوار المُعمَّق الراقي والمسؤول، الذي يجمع بين التشخيص والاستشراف، ويُمهِّد لبناء مُستقبلٍ عربيّ أفضل، واعتماداً على أدواتٍ مَعرفيّة عدّة مثل المؤتمرات والندوات، والإصدارات المعرفيّة والفكريّة والثقافيّة المتنوّعة، وجوائز الإبداع التي تُقدَّمها سنويّاً، وغيرها.

ويُعدّ دَور “مؤسّسة الفكر العربي”، على هذا النحو، أشمل وأوسع نِطاقاً من مُبادراتٍ محدودة أخرى عبّرت عن إدراك خطر فقر الفكر، وكان أهمّها تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة. وهذا فَرق بين مؤسّسةٍ تؤدّي دَورَها عن طريق أدوات معرفيّة عدّة، وتقرير سنوي يُعدّ شكلاً من أشكال أداةٍ واحدةٍ من هذه الأدوات، وهي الإصدارات المعرفيّة والفكريّة والثقافيّة. فإلى جانب المؤتمرات والندوات التي تعقدها المؤسّسة، وفي مقدّمتها “مؤتمرات فكر” الذي بلغ عددها 17 مؤتمراً بين العامين 2004 و2019، وجوائز الإبداع العلمي والتقني والاقتصادي والمُجتمعي والإعلامي والأدبي والفنّي وغيرها, تقدِّم المؤسّسة إصدارات متنوّعة سدّت، وما زالت، جزءاً يُعتدّ به من الفراغ الذي نشأ عن اختفاء مجلّات ودوريّات ثقافيّة وفكريّة رسميّة وأهليّة كانت تصدر في بعض البلدان العربيّة مثل مصر ولبنان والعراق.

وعلى الرّغم من أهميّة تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة، الذي سلَّط ضوءاً على دَور المَعرفة وأهمّيتها في عمليّة التنمية، انطلاقاً من أنّ الفقر لا يُحسب وفق معدّلات الدخل، بل بحسب حالة الإنسان وقدرته على التفكير والابتكار، وركَّز على تقييم أبرز التطوّرات المؤثِّرة في هذا المجال كلّ عام، بدءاً من العام 2002، وتحليل حال أدوات اكتساب المعرفة وسياقاتها المُجتمعيّة في العالم العربي، فهو يؤدّي دَوراً أضيق نطاقاً ممّا تقوم به “مؤسّسة الفكر العربي”.

وعلى سبيل المثال، نجد بين إصدارات عدّة لهذه المؤسّسة اثنَين يؤدّي كلٌّ منهما دَوراً مُهمّاً، مثله في ذلك مثل تقرير التنمية الإنسانيّة العربيّة، ولكن بطريقتَيْن مُختلفتَيْن، أولاهما تقارير التنمية الثقافيّة العربيّة التي بلغ عددها 11 تقريراً منذ العام 2008 تتناول موضوعات وثيقة الصلة بحالة الفكر العربي، مثل الصناعات الثقافيّة، وحركة التأليف والنشر، والتعليم، والمعلوماتيّة، والبحث العلمي، والتكامُل الثقافي العربي. والثانية كِتاب “أفق” السنوي الذي يصدر منذ العام 2014 ويُعنى بقضايا الثقافة والمثقّفين والتنمية الثقافيّة في العالَم العربي.

وقد أظهر الدور المُتنامي لـ “مؤسّسة الفكر العربي”، وبطريقة منهجيّة، أنّ الفقر في الفكر لا يقلّ خطراً عن الفقر المادّي، إن لم يزد. كما أكّد فكرة أنّ الفقر متعدّد الأبعاد، وليس محصوراً في بُعدٍ واحد، وهي الفكرة التي عُنون بها تقريرٌ أُعدّ من خلال شراكة بين جامعة الدول العربيّة ولجنة الأُمم المُتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا (ESCWA)، ومنظّمة الأُمم المُتّحدة للطفولة والتنمية (UNICIF)، ومُبادَرة أكسفورد للفقر والفقراء (OPHI)، وأَسهم فيه صندوقُ الأُمم المُتّحدة للسكّان (UNFPA)، وبرنامج الأُمم المُتّحدة للمستوطنات البشريّة (UN Habitat)، ومنظّمة الصحّة العالَميّة (WHO)، وبرنامج الأُمم المُتّحدة الإنمائي (UNDP)، ومُنظّمة الأُمم المُتّحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO)، وصدر عام 2017، وهو “التقرير العربي حول الفقر المُتعدّد الأبعاد”.

في مُواجَهة فقر الفكر

أُنشئت “مؤسّسة الفكر العربي” لتؤدّي دوراً كان يبحث عمّن يقوم به لمُواجهة فقر الفكر في العالَم العربي، وما زالت تؤدّيه على الرّغم من تداعيات جائحة كورونا والإجراءات الاحترازيّة المُترتّبة عليها، بما تتضمّنه من صعوبات في، وقيود على، التفاعُل الفكري والمَعرفي والثقافي، انطلاقاً من وعيٍ تامٍّ بأنّ خطر فقر الفكر العربي بلغ ذروته في عصر الثورة الصناعيّة الرابعة، حيث أصبحت المعرفة أكثر أهميّة من تراكم رأس المال الذي كان عماد الثورات الثلاث السابقة، وأنّ تنمية العقل الذي يُنتج هذه المعرفة صار محور العمل التنموي.

فقد بلغ دَور هذا العقل في الوقت الرّاهن أعلى ذروة له في تاريخ البشر الحديث، منذ أن بُدىء في إدراك أهميّة وضرورة تحريره من أغلالٍ كبَّلته طويلاً. وكانت تلك البداية في أواسط عصر النهضة الأوروبيّة في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر. فقد كان المُحرِّك الأساس لتلك النهضة، ولفلسفة الأنوار التي ترتّبت عليها، إدراك أنّ المعرفة قوّة، وأنّ العقل هو أداتها ورافعتها الأساسيّة، والتخلّي عن النظرة التي كانت مُقدَّسة للحياة، بما أدّت إليه من “تجميد” للتاريخ، الذي أصبح يتحرّك ويتقدّم بتوجيهٍ من العقل الإنساني بعدما ازدادت الثقة في قدراته، مع التوسُّع في إدراك أهميّته. وكانت الفنون والعلوم جناحَي نهضته التي بدأت إرهاصاتها في القرن الرابع عشر، في لحظة كانت حصون التخلُّف قويّة وحُرّاسُه أشدَّاء، وقدَّمت فنوناً، وأنتجت علوماً، وتطوَّرت في إطارها أفكارٌ جديدة في الوقت الذي خرج العقل من قُمقم حُبس فيه طويلاً.

وفي ساحات الفنون والعلوم استعرت المعارك بين القديم المُتشبّث بالاستمرار، والجديد البازغ. فنونٌ وعلومٌ كانت في جوهرها تعبيراً عن تَوقٍ إلى التقدُّم. فنونٌ أحدث وأجمل نافسَتْ فنّاً قديماً كان راكداً ومحصوراً في مُحاكاة الطبيعة كما هي، ولم يكُن بالتالي يُحَّرك عقلاً أو يحمل معنىً إلّا في حالة الترهيب من مُخالَفةِ أوامر وتعاليم دينيّة أو سلطويّة.

فنونٌ ظهرَ فيها دَورُ العقل في التصوير والرسم والنحت والمعمار والموسيقى والشعر، وبدأت في إنارة التفكير في معانٍ مُتضمّنة في هذا العمل الفنّي أو ذاك، ودلّت على إشراق شمس الإبداع الإنساني للتعبير عن روح الإنسان التوّاقة إلى التقدُّم.

وعلومٌ أخذت في التطوّر بسرعة، بدءاً من أواخر القرن السادس عشر في ارتباطٍ مباشر مع تحرير العقل. فلم يكُن هذا التحرير مُمكناً من دون مَنهجٍ علمي يفتح الآفاق أمام العقل ليُفكِّر ويتأمَّل ويُبدِع ويَخترِع ويُنتِج في كلّ مجالٍ من مجالات الحياة. تطوُّرٌ علميٌّ أصبح مُمكناً، ومن ثمّ قادراً على تحقيق ما فقد عُلماءٌ أرواحهم في سبيله، وأُرغم آخرون على إنكاره قبل ذلك، وفَتَحَ الطريق أمام تطوّرٍ ظلَّ مُحتجَزاً لفتراتٍ طويلة، عبر تأسيس علومٍ جديدة، بالتوازي مع النهضة الفنيّة، وعن طريق تطوير مناهج التفكير، وطرْح أفكار وتصوّرات مُتجدّدة عن الإنسان والحياة والكون.

وعلى هذا النحو يصبح الفكر ثريّاً، ويتحقَّق الثراءُ الفكري والمعرفي الذي بلغت أهميّته مستوىً لا سابق له في عصر الثورة الصناعيّة الرابعة، التي بدأت فيما كان العقلُ العربي غارقاً في فقره، ويحتاج عملاً جادّاً وشاقّاً من أجل تخليصه من هذا الفقر. وهذا هو الدور الذي كان يبحث عمّن يقوم به عندما أُنشئت “مؤسّسة الفكر العربي” في ختام قرن وبداية آخر، فأخذته على عاتقها. وسعت، وما زالت، إلى أدائه بما يتيسَّر ويُتاح لها من إمكانات، باستخدام مختلف الأدوات المعرفيّة، وبالاعتماد على مثقّفين وأكاديميّين عرب يتفاعلون معها، ومع بعضهم بعضاً من خلالها. وتؤكّد تجربة المؤسّسة على مدى أكثر من قرنَين أنّ العمل الفكري والمَعرفي الجادّ المُخلِص يُمكن أن يُثمر حتّى إذا كانت الأرض جرداء، والظروف صعبة، الأمر الذي قد يُشجِّع إقامة مؤسّسات وهيئات أخرى يُسهم كلٌّ منها في أداء مهمّة كبيرة لمُواجهة فقر الفكر العربي.

وإلى أن يحدث ذلك، سيكون على “مؤسّسة الفكر العربي” أن تُواصِل دَورها، وتسعى إلى التوسّع فيه، بمقدار ما يتوافر لها من إمكانات. وسيكون على المُثقّفين العرب المُتطلّعين إلى إنقاذ بلادهم وأُمّتهم من فقر الفكر أن يتفاعلوا معها، ويُسهموا في السعي إلى توسيع نِطاق دَورها في مُواجَهة أخطر أنواع الفقر.

***

(*) مفكّر وباحث من مصر

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *