ياسين الأيوبي… وسامة فكرية لا تعرف الأفول

Views: 759

د. محمود عثمان

تقودني السيارة ولا أقودها باتجاه الكورة حيث اتخذ له بيتًا-صومعةً يتنسك فيها لربه وقلبه. قال لي إنّ حبه للجمال ليس له حدود وهو في حالة ظمأ لا يعرف ريًّا ولا شبعًا.

الحب عنده ملازم للشعر. والحب كالشعر فعل حياة وطاقة يمنحها لمن يعاشره أو يحدثه. وتتجسد في هذا الكاهن الثقافي مقولة ماركيز: نحن لا نكف عن الحب عندما نشيخ بل نشيخ عندما نكف عن الحب. ويحاول الشاب الثمانيني أن يظل في حالة وجد دائم. وكثيرًا ما تساءلت وسألت: ما هذه القدرة على حب امرأة كل سنة أو شهر وربما حب عدة نساء في آن.هل هو حب عاطفي أو ذوقي جمالي أم هو ثأر من تجربة حب خائب عاشها من قبل؟

كان يؤكد لي أنه خلق للحب وخلق الحب له. ولا ريب في أنّ وسامته الفكرية كوسامته الخلقية لا تعرف الأفول. فهو محدّث هادئ ذرب اللسان يصطاد بلسانه عملًا بما سبق أن قاله أمير الشعراء :

قد جاء من سحر اللحاظ فصادني

وأتيت من سحر البيان فصدته

إلا أنّ هذا الياسين الرائع ينقلب أحيانًا إلى رجل حاد الطبع ولاسيما في مواقفه النقدية أو عندما يشعر أنّ أحدًا يدوس له طرفًا أو يخز كبرياء متأصله في نفسه.

 

خطر لي، وكنت طالبًا في الجامعة، أن أهرب من وطأة القوانين وجفافها، فاندسست مع أصدقاء لي في صف أستاذ “مذاهب الأدب” فإذا به يوجه إلينا السؤال الآتي: ما هو عذاب الحب؟. فانبريت، وكنت غرًّا، للإجابة فقال لي: لم تصب كبد الحقيقة. إنّ عذاب الحب يكمن في الفراق. وهكذا سطعت في ذهني عبارة جبران النبي: الحب لا يعرف عمقه إلا ساعة الوداع .

ولله تلك الأيام التي أوحت إلى ياسيننا ديوانه الأثير: منتهى الأيام. حيث اللغة أصفى من نبع، والمفردات عذارى ترفل بأناقتها، وكأنّ القوافي صدى خلخال رشيق يداعب السمع. وكرّت دواوينه، فأفرد لكل محبوبة ديوانًا، وصولًا إلى ديوانه الطازج: “عندما يعصوصف الوصال”. وهو المفتون دومًا ، كصديقه الراحل عبد الله شحادة، بصيغة “افعوعل” التي يدسها، على شغف بين السطور. ولا يرعوي، كعادته، عن الاستنجاد بالمعجم، لاختيار مفردة ينفض الغبار عنها، ويجلوها مموسقةً كعروس ليلة الزفاف.

وقد أنشأ، صديقي رعاه الله، كتابًا في شاعر الكورة الخضراء، بل دراسة أفقية للمواضيع والأساليب والنوازع، تشكل بلا ريب، موردًا للناهلين، وطلاب الدراسات العليا، الذين يشتهون الخوض في أدب الكوراني الأخضر، الذي تغنى بكريمته المدللة “ميراي” وريثة بهائه وعطائه. فحققت له أغلى أمنية وأنبل حلم.

ياسين الأيوبي، موقد نستدفئ به في صقيع العمر، وسنديانة نستظلها في هجير الأيام. يعيش أسطورته ويأخذنا بلطف إلى العيش فيها. ويدعونا لحج الأماكن التي زارها العشاق: هو وهن. وما قصائده التي تلت ” منتهى الأيام ” سوى أناشيد سقطت سهوًا من دفتر أحلامه، ومزامير قلب هادر، بعذوبة وصمت، في ” طواحين الغروب”.

***

(*) ألقيت في حفل تكريم  الباحث الأكاديمي الشاعر الدكتور ياسين الأيوبي  الذي نظمه منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده  الثقافي برئاسة الشاعرة ميراي شحاده حداد بمناسبة إطلاق كتبه، برعاية وزارة الثقافة اللبنانية، في الرابطة الثقافية-طرابلس.

(*) الصورة الرئيسية: من اليمين: د. محمود عثمان، د. ياسين الأيوبي، الشاعرة ميراي شحاده حداد

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *