أفلام إباحية في دور سينما الحرب… أين اختفى أبو خليل؟

Views: 90

زياد كاج

   شهدت الحرب الأهلية اللبنانية في مرحلة الهدوء أو الاستراحة النسبية بعد حرب السنتين الكثير  من تجليات وإفرازات المجتمع الحربجي،  فصار كل محرم مستباحًا وكل ممنوع مرغوبًا. فالحروب الأهلية ولاّدة لثقافة رخيصة شوارعية ترافق المدفع والبندقية .

   بعد سنتين من القتل والخطف على الهوية، وانقسام بيروت الى شرقية وغربية، والمعارك العنيفة التي شملت كل البلد مترافقة مع قصف عشوائي وسيارات مفخخة تنفجر هنا وهناك وسط الجموع  ولا تميز بين عسكري أو مدني، انتشر عنف متفلت ومتوحش جعل كل ما هو شاذ وغير أخلاقي يبدو تفصيلا تابعًا ومملا أمام هول المشهد  السوداوي العام.

   من هذه الإفرازات: ظاهرة الأفلام الإباحية التي عُرضت في صالات معينة وجذبت جمهورًا معينًا من كافة الأعمار. قاصدو  هذه الصالات “المشموسة” كانوا من كبار السن، والمراهقين اللاهثين لاكتشاف عالم الجنس بالصوت والصورة المتحركة، والمهمشين اجتماعياً، والمكبوتين جنسياً الذين لم تسمح لهم الحرب بإقامة علاقات طبيعية مع الجنس اللطيف؛ عدا عن بعض  المقاتلين المتعبين من جبهات القتال والمثليين الهاربين من عالم الضوء. والملفت أن معظم هذه الصالات كانت تنتشر بالقرب من خطوط التماس في الأسواق بعيداً عن أعين الناس والمجتمع. وانتشرت هذه الصالات  ضمن بيروت الغربية كسينما “أورلي” و “أديسون” في شارع بلس قرب الجامعة الأميركية في بيروت، وسينما “بافيون” و “الستراند” في شارع الحمرا، وسينما “سلوى” في منطقة البربير. وأنا بدوري كانت لي حصتي أيام المراهقة في سينما تقع تحت الأرض، كانت قريبة من سينما عايدة وسميراميس، مقابل جامع كنت أقصده أيضاً! المراهقة أصعب في زمن الحرب.

سينما ستراند

 

    في تلك الصالة ( كان الوصول اليها يتطلب النزول على درج طويل) سمعت لأول مرة صرخة “قطشة أبو خليل ” –وهي عبارة درجت وانتشرت في ذلك الزمن يطلب بواسطتها الجمهور من مشغّل الكاميرا أن يقطش مشهد الفيلم المُعلن عنه في الخارج ليبدأ “عرض البورنو” فيسود الصمت. “كب الأبرة بتسمع صوتها”. صمت يتناقض مع عالم الخارج.

    ظالمة هي الحرب وقاسية على كافة المستويات. لها عدالتها  الظالمة المفروضة والمتسرعة. فبسبب هذه الظاهرة “الإباحية” في بعض دور السينما، علت أصوات الاعتراض والإدانة في دور العبادة وهاجم رجال الدين هذه الظاهرة المدانة في الأساس. كثر من رجال الدين لم يدينوا الحرب والقتل على الهوية والقصف العشوائي والخطف والمجازر؛ بل بعضهم اباحها وشجع عليها. فعمدت “الحركة الوطنية”، بإيعاز من أبو عمار، الى اقتحام هذه الصالات فجأة وخلال النهار (خاصة تلك التي كانت قريبة من خطوط التماس) وسحب كل من كان فيها مشياً وأمام أعين الناس وكاميرات المصورين الى داخل بيروت بهدف التشهير بهم وتعبئة أكياس الرمل لمتاريس ودشم خطوط التماس.

في اليوم التالي شاهد الناس صور هؤلاء على صفحات الجرائد.  رغم ذلك، استمرت هذه الدور بعرض أفلامها المرغوبة من جمهور مكبوت، هارب، معقد، ومضطهد أمنياً واجتماعياً. فماكينة الحرب لا تعاقب المجرمين الكبار والخطيرين عادة، بل تعمد الى معاقبة اصحاب الجنح الصغيرة. ويبدو أن أصحاب “الحل والربط” كانوا يشجعون هذه الظاهرة من تحت الطاولة وكانوا يقبضون خوات بالسر من أصحاب تلك الصالات.

   الأجواء في تلك الصالات كانت عادة فوضوية؛ حركة الداخلين والخارجين (خاصة الى التواليت) مستمرة وملفتة. رائحة العفنة وغيرها كانت تسود المكان. قد تقع مشادة كلامية هنا وهناك وكان يسمح بإدخال المأكولات والمشروبات وحتى التدخين. أسعار البطاقات كانت رخيصة مقارنة مع الصالات الأخرى التي كانت تعرض أفلام الأكشن وبروس لي وبعض الأفلام المصرية والهندية التي تبكي الحجر. ملفت كان منظر كبار السن من المتزوجين (أحدهم كان ساكن في بنايتنا ) كأنهم في هروب وملل من رتابة حياتهم الزوجية. حتى أن أحد جيراننا—الوافد حديثاً من قرية بعيدة—أخذ زوجته “لتثقيفها” في إحدى هذه الصالات.

    وصل الأمر الى دخول عناصر من ” قوات الردع العربية”، خاصة من دول الخليج، الى ارتياد هذه الصالات ببذلاتهم العسكرية! لطالما شوهد عدد من هؤلاء في صالة “سينما ستراند” ( اليوم يقوم مكانها محلات ماكس للألبسة). (bullfrogspas.com) الرئيس العراقي صدام حسين –الذي فرض  حمية غذائية على جيشه والموظفين الحكوميين بعدما لاحظ انتشار التخمة بينهم—رفض ارسال جيشه ضمن قوات الردع بحجة أنهم “سيفلتون” في بيروت!( طبعاً ، في الأمر مبالغة اذا ما راجعنا تاريخ أبنه عدي الحافل !!).

 

   انتقلت هذه الثقافة الإباحية الى الشاشة الكبيرة والمتحركة والمثيرة من عالم المجلات المحلية والعالمية المستوردة التي كانت تُهرب وتُباع بأسعار خيالية . عدا عن المجلات الإباحية الفاضحة ومن العيار الثقيل. فكل ممنوع مرغوب، وكل مكبوت لا بد أن يجد فوهة بركانه الخاص في مكان ما.

“صوت العدالة” ، وهي جريدة ورقية ، كانت متخصصة بالأخبار الجنسية والفضائح والجرائم. ” مجلة البلاي بوي ” كانت سلعة مرتفعة الثمن؛ يعيرها الشباب والمراهقون لبعضهم البعض. هذه السلع – تعتبر اليوم الأكثر رواجاً في العالم من حيث المدخول المادي في الغرب- كانت خير تعبير عن العنف المتفشي في المجتمع الحربجي اللاهث وراء الملذات وسط يم هائل من الأخطار وشبح الموت يخيم على الجميع. فالإنسان بطبيعته وغريزته يميل الى قطف ثمار اللذة في حياته الفانية كلما ارتفع منسوب الخطر. هو يشبه لص كرم العنب ليلاً الجائع والناطور يراقبه من بعيد وهو على وشك أن يضغط على الزناد.

    اختفت هذه الظاهرة من الصالات بعد إنطلاق ” مشروع الدولة الأعرج” في أوائل الثمانينات. عادت صالات الحمرا الى الأفلام الآكشن والرومانس والكوميديا. اختفى أبو خليل و”قطشته”. لكن جهاز الفيديو اللعين صادر دور هذه الصالات، وازدهرت تجارة الافلام الخلاعية على كاسيتات الفيديو التي كانت بحجم حذاء رجالي. عنوان الفيلم على الغلاف شيء، والمضمون شيء آخر.  انتشرت المحلات التي تؤجر أفلام الفيديو في المناطق والأحياء انتشار النار في الهشيم.

كش أبو خليل ليصير فيلم فيديو يستمتع به الكبار والمتزوجون، وينبهر به المراهقون حين يكون الأهل خارج الدار. يجدونه ولو وُضع في سابع أرض.

   اذا أردت أن تفسد مجتمعًا، سلط عليه أبو خليل وسط تقاليد وقيم محافظة بالية، تُنشد المثل والأخلاق زوراً، والعدة المتوفرة لتبنيها والمحافظة عليها تكاد تكون معدومة في غياب ثقافة جنسية علمية وسليمة في المدارس وحتى الجامعات. فكم من رجال دين يعظوننا اليوم—مسلمين ومسيحيين—بالسلوك المستقيم ( طبعاً حسب تفسيرهم الخاص) وشباب وشابات اليوم يحلمون بجواز سفر وبينهم والزواج “الحلال” مسافة سفر الى أبعد كوكب في المجرة.

فنسبة تنزيل هذه الأفلام على النت عالمياً تصل الى 35 %، وهي تحظى بأربعة مليار مشاهد في الساعة، وتصل الأرباح الى 3000 دولار كل ثانية.

أين هو أبو خليل  اليوم يا ترى ؟

أبحثوا في هواتفكم الخلوية.

هو  حي يُرزق.

 

   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *