سجلوا عندكم

الحلم اليوتوبي وجمهورية القيم الدويهية (قراءة في قصة “الإنسانية الخيرة” للأديب الدكتور جميل ميلاد الدويهي)

Views: 508

د. جوزاف ياغي الجميل

الإنسانية الخيرة…قصة للأديب الدكتور جميل ميلاد الدويهي.

إنها قصة سيدة قصر متغطرسة تعامل خادمها عبد المنعم معاملة العبيد، وهو يحتمل ظلمها بصبر ورجاء، إلى أن قذفتها فرسها، ذات يوم، إلى واد عميق، فأصيبت بشلل نصفي، أقعدها في الفراش، فعادت إلى رشدها، وإنسانيتها، وتنازلت عن ممتلكاتها لمنقذها عبد المنعم، الذي أصبح أميرا، وسيدا على القصر. ولكنه بقي طيبا معها، يخدمها بمحبة وإخلاص.

إنها قصة من قصص اليوتوبيا، اعتدنا مثلها، في قصص الأديب الدويهي، حيث ينتصر الخير على الشر، مهما طال الزمان.

بداية يحمل إلينا عنوان القصة: “الإنسانية الخيرة” انتصار الخير على الشر، منذ البداية. وهذا ما عبر عنه اكتفاء المؤلف بالجانب المشرق من القصة. وكأن الدويهي يؤكد ، في خلاصة القصة، أن الخير هو الأصل، وهو الفطرة. أما الشر فهو طارئ ودخيل، على الذات الإنسانية. وذلك لأن سيدة القصر، على الرغم من سوء طبعها، في بداية القصة، عادت إلى أصلها الطيب، بعد الحادثة التي نزعت القشور عن اللباب.

أمر آخر مرتبط بالشخصيات،في هذه القصة، وهو أن عبد المنعم وحده يمتلك اسما، مشتقا من النعمة والخير. هو عبد ولكنه عبد للنعمة والخير والمحبة. وهو على الرغم من الإذلال الذي تعرض له، على يدي سيدته الظالمة، بقي يحبها. والدليل على ذلك أنه تحمل أذاها بصبر، وأنه تكبد مشقة إنقاذها، بعدما رمتها الفرس في الوادي. وقد أبى أن تتنازل له عن ممتلكاتها. ولكنها أصرت على ذلك. وبقي يخدمها كأنها سيدته.

أما المرأة فهي نكرة لا تحمل اسما. عرفناها فقط من صفاتها: سيدة القصر الظالمة، قلبها ممتلئ بالكره والحقد والعدوانية. ولكنها، بعد الحادثة، تحررت من شرها، واستعادت إنسانيتها والخير. هي أشبه بالابن الضال، في المثل الإنجيلي.

شخصية ثالثة كان لها دور إيجابي في القصة. إنها الفرس التي لم تستطع احتمال الظلم الذي مارسته السيدة بحق عبد المنعم، فعاقبتها برميها في الوادي. وكانت النتيجة شلل الجسم والحواس، وعودة الإحساس الإنساني.

تحمل القصة الكثير من الرموز. فالقصر هو الحياة. والسيدة هي الشر الذي يسيطر على العالم. أما عبد المنعم فهو الإنسان الذي قال عنه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: الإنسان جيد بطبيعته، ولكن الحياة تفسده. وعبد المنعم كان أشبه بالذهب الذي لا يفقد أهميته، ولو وضع في الوحول.

والقنديل الشاحب هو قنديل ديوجين الذي كان يبحث عن الحقيقة، في ظلمات هذا العالم.

الدروب الوعرة هي المشقات التي يعانيها الإنسان، في هذه الحياة. إنها جلجلته التي تنتهي بالموت والفداء.

أما شلل المرأة، في جانبها الأيسر، فهو دليل على انكسار الشر، في ذاتها، وانتصار الخير. وهذا ما يعيدنا إلى المثل الإنجيلي حين وضع الله الأبرار إلى اليمين، والأشرار إلى اليسار. وقد يشير اليسار إلى الغنى والثروات.

والفرس هي العقاب الإلهي عبر الأنبياء، بحق الأشرار، فيعيدهم إلى جادة الصواب، بعد غيهم الطويل.

والوادي هو وادي الدموع. إنه مكان العذاب الذي يلحق بالأشرار. ولكنه ليس عذابا أبديا، بل معبر إلى التطهر الروحي والأخلاقي.

وكان للألوان دور رمزي أيضا في ثنائية الخير والشر. فالفرس بيضاء، لأنها رسول الحق والخير. والصفحة بيضاء لأنها صفحة القلب الإنساني الخير. أما الحبر، أي أعمال الإنسان، فهو أسود، سواد الحقد والكره والظلم.

قصة الإنسانية الخيرة هي قصة رمزية بامتياز. إنها قصة جمهورية القيم الدويهية التي تسعى إلى أن يكون الثواب والعقاب هنا، على هذه الأرض، لا في السماء.

إن عبد المنعم هو جميل الدويهي نفسه الذي خدم سيدته الغربة بإخلاص ولم يلق منها إلا الأذى والإذلال، إلى أن ثارت فرسه البيضاء، أفكاره الاغترابية، أدبه والإبداع، فاستعاد إمارته الضائعة، وقصر إبداعه المجيد. وبقي هو هو، متواضعا وخادما للنعمة الإنسانية.

الإنسانية الخيرة هي جلجلة الأديب الدويهي، جرحه الذي لا يندمل. ولكنها ملاذه الأخير، في غربته التي طالت، في قصر الغربة.ولكنها الملاذ الحلم اليوتوبي الذي لا يشبه الواقع. فمتى تكون الثورة الحقيقية، ويعود الحق إلى أصحابه، في وادي الدموع والأنين المعتق بالحنين؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *