تلسكوب باتّساع الأرض لتحليل لغة النجوم

Views: 792

د. أحمد شعلان*

عيونُ البَشَرِ هي بلا شكّ الراصد الابتدائيّ الأوّل لما في السماء من أجرام، وما على الأرض من أجسام. فلغة الضوء هي الأكثر تلقائيّة والأكثر شيوعاً بين كلّ المكوّنات الماديّة في هذا الكَون، إنْ على المستوى الذرّيّ المُتناهي في الصِّغر أو وصولاً إلى المستوى المجرّي المُتناهي في الكِبر.

في ما يخصّ عِلم الفلك والأرصاد الفلكيّة، وحتّى الأمس القريب، كان الضوء، أو بتعبيرٍ عِلميّ أدقّ، الإشعاع الموجيّ الكهرمغناطيسيّ، هو اللّغة الوحيدة التي تَصلنا من السماء، من النجوم والكَواكب والمذنّبات والكويكبات والمجرّات وبقيّة الأجرام السماويّة.

هذه اللّغة الضوئيّة تَصلنا مشفّرةً بأطيافِ الذرّات التي أَطلقتها، وتحليلُ هذه الأطياف يتيح لنا قراءة السيرة الذاتيّة للموادّ المُرسِلة: عناصرها وتركيبها الكيميائي وحرارتها وضغطها وكثافتها ودرجة تأيينها الكهربائي. ففي العلوم الطَّيفيّة (سبكترومتري)، لكلّ عنصر كيميائي بَصْمَتُه الضوئيّة التي تُميّزه، إمّا عن الضوء المُنعكس عليه إذا كان بارداً، أو عن الضوء الذي يبثّه في حال تسخينه. والبصمة الضوئيّة هذه (أو ما يُسمّى عِلميّاً الطيف الكهرمغناطيسي لهذه المادّة) تُخبّىء كلّ أسرار هذا العنصر وظروف ذرّاته الفيزيائيّة واتّحاداته الكيميائيّة.

هكذا، حين يُصوِّب الفلكيّ مِقرَابَه نحو نَجمٍ ما، تستطيع عَينه تمجيدَ جمال الكون والنور والرؤية، إنّما لا يكفي نظره وحده للتعرُّف إلى طبيعة النجم ومُعطياته. ولا بدّ من مطيافٍ يُحلِّل تلك الأشعّة الخافتة التي تصله عبر فتحة عَين التلسكوب، الفتحة التي كلّما كَبرتْ أَتاحت لكميّةٍ أكبر من همساتِ النجم أن تصلَ إلى المطياف. والحقّ يُقال، إنّه من دون عِلم التحليل الطيفيّ، لا يستقيم عِلم الفلك، وتبقى الأرصادُ الفلكيّة كما لو أنّ تلك النجوم تُخبر قصصَها بلا كَلل، لكنْ أمام طرشانٍ لا يفقهون.

أضواءٌ لا تراها عيون البشر!

والإشعاع الكهرمغناطيسي مَوجاتٌ أثيريّة تتميّز بتردّداتها وطاقتها وبالتالي تأثيرها على الموادّ التي تلتقيها. وشبكيّة العَين البشريّة تستجيب لمجموعةٍ محدودةٍ جدّاً من تلك المَوجات فقط، فتُحاكي ما نُسمّيه “اللّون الأحمر” بتلك الأشعّة التي يبلغ طولها الموجي حوالى 0.75 ميكرومتراً (الميكرومتر هو جزء من مليونٍ من المتر)؛ كما تُعطي للطول المَوجي 0.45 ميكرومتراً لَوناً أزرقَ أو بنفسجيّاً. وبين تلك المَوجَتَين تتراصفُ بقيّة ألوان الطيف الذي نسمّيه “الضوء” أو “الأشعّة المَرئيّة”، من الأحمر (المَوجة الأطول في الأشعّة المرئيّة إنّما الأقلّ طاقة) إلى البرتقالي إلى الأصفر إلى الأخضر إلى الأزرق إلى البترولي فالبنفسجي (وهو الطول المَوجي الأقصر إنّما ذو الطّاقة الأكبر في الأشعّة المرئيّة).

لكنّ الطيفَ الكهرمغناطيسي يمتدّ، بالأطوال الموجيّة، من عشرات الأمتار (في موجات الراديو) إلى الميللّيمترات في الأشعّة الحراريّة ودون الحمراء، إلى النانومترات (جزء من مليارٍ من المتر) للأشعّة فوق البنفسجيّة إلى البيكومترات (جزء من مليار من الميللّيمتر) للأشعّة السينيّة، إلى الفمتومترات (جزء من مليار من الميكرومتر) لأشعّة غاما النوويّة!

للنجوم لغتها المَكتوبة في بَصمتها الضوئيّة!

في مجرّتنا “درب التبّانة” وحدها ما يقرب من 400 مليار نَجم.. نجوم مُختلفة الأحجام والكِتل والحرارة والأنواع. وكلٌّ منها تَبثّ أطيافاً “ضوئيّة” تُعبِّر عن حالتها وحرارتها ومُكوّنات الموادّ على سطحها؛ فالنجوم الباردة (التي لا تزيد حرارة سطحها على 3000 درجة مئويّة يغلب على طَيفها اللَّون الأحمر، والنجوم المُعتدلة – مثل شمسنا – حيث تُقارِب حرارة السطح 6000 درجة مئويّة يغلب عليها اللَّون الأصفر، والنجوم الشديدة الحرارة (20000 درجة وما فوق) هي نجوم زرقاء وتُرسل، فضلاً عن أشعّتها المرئيّة أشعّةً فَوق – بنفسجيّة. كما أنّ هناك نجوماً مُنفجرة (سوبرنوفا) تُرسِل حزماً من الأشعّة السينيّة وأشعّة غاما الشديدة القوّة كصرخات ألمٍ واستغاثة قبل انقراضها المدوّي.

إذن، نحتاج في عِلم الفَلَك إلى أن “نُصغي” إلى وشوشات النجوم على كلّ المَوجات، ولا بدّ من بِناء مَراصِد وتلسكوبات مزوَّدة بأجهزةِ تحليلِ الأطياف المُختلفة، لا بدّ من “عيون” لاقِطة مُتخصّصة، وشاشاتٍ حسّاسة لكلّ نَوعٍ من الأشعّة، بغية التعرُّف إلى مُختلف النجوم والحصول على بياناتها العِلميّة.

هذا، ولن أتطرّق في هذا المقال إلى لغةٍ أخرى تأتينا من النجوم الهائلة واصطداماتها وحوادثها، وهي لغة جديدة بدأ الفلكيّون بالتعرُّف إليها منذ سنواتٍ قليلة، ألا وهي مَوجات الجاذبيّة!

ستائر غلافنا الجوّيّ ونوافذه

لكنّ الغلاف الجوّيّ للأرض، في وظيفته المَرسومة لحماية الحياة على الأرض والحِفاظ على بيئتها، يخفي عنّا الكثير من حقائق السماء وأسرار الأجرام الفلكيّة؛ فحديث النجوم ليس كلّه قابِلاً لاختراقِ ستائر غلافنا الجوّيّ المُتعدّد الطبقات، التي تسمح للأشعّة المَرئيّة والمَوجات الراديويّة وبعض الأشعّة دون الحمراء فقط باختراق الغلاف والوصول إلى سطح الأرض. مثل هذه المَوجات الواصِلة تُحدِّد ما يُسمّى بـ “النوافذ الجوّيّة”.

تتصدّى طبقة الأوزون مثلاً للأشعّة فوق – البنفسجيّة القويّة وتُبقيها بعيدة عن أذيّتنا، وتتصدّى طبقة الستراتوسفير السميكة للأشعّة السينيّة وأشعّة غاما الخطرة وتُجنِّبنا أخطارها. لكنْ نتيجةً لذلك، ومن مِنظارٍ فَلَكيّ، فهذه اللّغات الضوئيّة لا تَصل إلى مطيافاتنا على الأرض كي ندرس حالة النجوم التي تُرسلها، فما العمل؟

مَراصِد فلكيّة في الفضاء

بين الأمثال العاميّة اللّبنانيّة، ثمّة واحد منها يقول: “اذا ما بدّو يجي لعندك، روح إنت لعنده”. وهذا هو الحلّ! فحكايا النجوم التي لا تستطيع العبور إلينا، نستطيع الذهاب لسماعها بالخروج من الغلاف الجوّي للأرض، أي بإقامة مَراصِد فلكيّة في الفضاء.

وكان تلسكوب هابل الفضائي، الذي أَطلقته وكالة الفضاء الأميركيّة “ناسا” عام 1990، أكبر إنجاز وأهمّ مهمّة أدَّتها الأقمار الاصطناعيّة منذ إطلاق سبوتنك السوفياتي عام 1957. لقد كانت قفزةً نوعيّة هائلة في الرصد الفلكي، حيث لا يزال هذا التلسكوب الفضائي يُزوّدنا بصورٍ فلكيّة عالية الدقّة، ويسبر أعماق المجرّة، بل يرصد المجرّات العديدة المُنتشرة في هذا الكون.

وبعد أكثر من 30 عاماً على إطلاقه، قرَّر عُلماء الناسا أنّ هابل قد أدّى خدمته، وآن أوان استبداله. وقد عمل هؤلاء منذ سنين على بناء تلسكوب “جيمس وِب” الفضائي، وهو أكبر وأكثر قدرة من هابل، ففي حين كان قطر مرآة هابل 2.40 متراً، يبلغ قطر مرآة “جيمس وِب” ستّة أمتار، وهو مجهَّز بكلّ ما طوَّرته تكنولوجيا الفضاء في السنوات الأخيرة. ومن المُقرَّر إطلاق “جيمس وِب” إلى الفضاء في 31 تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام الجاري 2021.

كما بات الفضاء يعجّ بعشرات التلسكوبات المُختصّة في كلّ حقلٍ من حقول الأشعّة الكهرمغناطيسيّة، ما أَتاح رصْدَ الملايين من الأجرام الفلكيّة الجديدة وتحديد مُواصفاتها، كما أتاح اكتشافَ آلاف الكواكب التي تدور حول نجومٍ بعيدة، في إطار البحث عن كَواكب شبيهة بالأرض، وعن حياة مُحتمَلة لا بدّ من وجودها في هذا الكَون الشاسع.

وبين عشرات التلسكوبات الفضائيّة التي أَطلقتها وكالات الفضاء، أذكر تلك التي نالَتْ قدراً أكبر من الشهرة:

– تلسكوب “كونتون” المختصّ بالتقاط أشعّة غاما، وكانت ناسا قد أَطلقته عام 1991؛

– تلسكوب “شاندرا” العامل بأشعّة إكس، أَطلقته ناسا عام 1999؛

– تلسكوب “سبيتزر” العامل بأشعّة المايكروويف، أَطلقته ناسا عام 2003؛

– تلسكوب “وايز” العامل بالأشعّة دون الحمراء، أَطلقته ناسا عام 2009؛

– تلسكوب “إنتيغرال” الذي أَطلقته وكالة الفضاء الأوروبيّة “إيسا” عام 2002؛

– وهناك عدد من التلسكوبات الفضائيّة الأخرى التي أَطلقتها دولٌ مثل روسيا والصين والهند وإسبانيا.

المَوجات الراديويّة تَصلنا عبر ملايين السنوات الضوئيّة!

لمَوجاتِ الراديو اعتبارٌ كبير في عِلم الفلك الحديث. أوّلاً إنّ تلك المَوجات قادرة على اختراق الغلاف الجوّي للأرض بسهولة، منها وإليها، في اللّيل أو في النهار، في مناخٍ حارّ أو بارد لا فرق، في طقسٍ مُشمس أو مُتلبّد بالغيوم. لذلك، فإنّ التلسكوب الراديوي، وهو صحن “دِش” كبير يفوق قطره عادةً عشرة أمتار – وقد يصل إلى مئات الأمتار كما كان في مرصد أراسيبو في بورتوريكو (305 أمتار) وكما هو الحال حاليّاً في المرصد الصيني الراديوي “فاست” (500 متر) – لا يتأثّر بالتلوّث الضوئي ولا بالتلوّث البيئي، مُقارَنةً بالتلسكوبات الأرضيّة العاملة بالأشعّة المرئيّة. والمَوجات الراديويّة المُقبلة من الأجرام الفلكيّة البعيدة يُمكنها قطْع مسافات أكبر بكثير من تلك التي يقطعها الضوء المرئي عبر الغبار الكَوني المُنتشر في فضاء المجرّة.

لذلك، ازدادَ الاهتمام بالمَراصد الراديويّة منذ أواسط القرن الماضي، بخاصّة أنّنا في بحثنا عن حضاراتٍ مُحتمَلة حول نجومٍ بعيدة غير الشمس، يجدر التقاطُ مَوجاتِ بثٍّ راديويّ من “شعوب غريبة”؛ كما يجدر التقاط الأشعّة الراديويّة الصادرة عن الكَواكب البعيدة نفسها كأجسام فلكيّة بارِدة تُعلن عن نفسها عبر المَوجات الراديويّة الطويلة.

تلسكوبات راديويّة مُتشابكة: عَين باتّساع مساحة الأرض!

لكنّ الثورة الكبرى في هذا المجال أَتت إثر تطبيق ظاهرة التشابُك الضوئي (الإنترفيرومتري) في الرصد الفلكي، وبخاصّة الرصد الراديوي.

فقد بَرْهَنَ العالِم الفيزيائي مايكلسون، الذي كان قد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1907 لقاء عمله حول ظاهرة التداخُل والرنين الضوئي (إنترفيرومتري)، أنّه إذا وُضع مقرابان مُتماثلان على مسافة “إكس” من بعضهما البعض، ووُجِّها إلى النقطة ذاتها – الهدف في الفضاء – تكون النتيجة حدوث تكبيرٍ لتلك النقطة يتوازى مع المسافة التي تفصل التلسكوبَين. بقولٍ آخر، تكون المحصّلة هي تلسكوب “افتراضي” يحوز قدرة مُذهلة على تكبير الهدف الفلكي، كما لو كان لدينا تلسكوب واحد يُوازي قطره المسافة بين التلسكوبَيْن المُستعملَيْن حقّاً.

شكَّلَ نجاحُ تلك التجربة نقطةَ البداية لثورةٍ في علوم التلسكوب، وخصوصاً تلك التي تعمل بموجات الراديو؛ إذ فَهم العُلماءُ أنّ نَشرَ مجموعة من التلسكوبات المُتشابهة والمُنسقّة في عملها على موجات الراديو، يُنتِجُ تلسكوباً “افتراضيّاً” عملاقاً يقدر على إعطاء تكبيرٍ دقيق وواضح لأجرامٍ سماويّة في الأعماق السحيقة للكون الفسيح.

وهناك مرصد مركّب بتلك الطريقة في “نيو مكسيكو”، يضمّ 27 صحناً لاقِطاً، قطر كلّ منها 30 متراً. ويحمل ذلك المرصد اسم “المصفوفة العظمى” (Very Large Array – VLA)، وتتوزّع أطباقه على دائرة يبلغ قطرها 36 كيلومتراً، ما يصنع تلسكوباً “افتراضيّاً” يبلغ قطره 36 كيلومتراً!

في ذلك السياق، تسعى وكالة “ناسا” راهناً إلى نشْرِ شبكةٍ من ذلك النَّوع من صحون الراديو، ضمن مشروعٍ ضخْمٍ لرصْد الفضاء بالاستناد إلى ظاهرة الـ “إنترفيرومتري”.

عند تلك النقطة، صارَ بديهيّاً التفكير بالعمل على نشْرِ مصفوفةٍ من التلسكوبات التي تعمل بظاهرة الـ “إنترفيرومتري” في مَوجات الراديو، على امتداد الكرة الأرضيّة بأسرها، ما يعني تحوُّل الأرض إلى تلسكوبٍ “افتراضيٍّ” هائل القدرة، “عَينه” باتّساع الأرض. ويجري التخطيط عمليّاً لصنْع ذلك “التلسكوب” الهائل، من ضمن مشروع يحمل اسم “القاعدة الدوليّة التداخُليّة الشديدة الطول” (Very Long International Baseline Interferometry).

***

(*) المُنسِّق الوطني اللّبناني للأنشطة الفلكيّة – الاتّحاد الفلكي الدولي

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *