الله معك يا فارس… أنرت واستنرت ورأت ابتسامتك الحياة

Views: 758

سليمان بختي

عرفت الراحل فارس ساسين بداية من مؤلفاته وأبحاثه وحواراته وشهرته الأكاديمية.

قرأت له كتاب عن سليم تقلا ” من بناء الدولة إلى معارك الإستقلال”، وآخر “لبنان: قرن في صور”، و”كتاب الإستقلال: صور ووثائق” مع نواف سلام وغسان تويني، وكتاب “البرج” مع غسان تويني، وكذلك حواره مع فوكو 1979 الذي نشره مترجما في مجلة “كلمن” وسبق وأجرى حوارا مع ميشال سير.

وعرفته عن قرب أكثر عندما تعاونت معه لإنجاز بعض الكتب في دار النهار للنشر بهمة غسان تويني ومودة سامية الشامي. وتعددت اللقاءات وتعمقت مع جلسات العمل في التدقيق والترجمة والمراجعة والتبويب والغلاف والعناوين. واكتشفت فيه عبر ذلك مفكرا فلسفيا عميقا يعتبر كانط وهيغل وأفلاطون وأرسطو من أركان هويته.

 

كان فارس ساسين دقيقا في نبش الأخطاء والتحقق من مصدرها ومتواضعا في الإشارة إليها أو مناقشتها مع المؤلف. كل كتاب يخرج من يده يلقى العناية والاهتمام والرعاية . كل كتاب هو مشروع مستقل. وما إن يقرأ النص حتى يضعه في إطاره التاريخي والفكري والحضاري. وكان  ظريفا إذا ما نفدت  من بين يديه وسائل المنطق لجأ إلى السخرية الراقية القارصة تأتيه من برج الرصد. كان يتذكر دائما أنه مدين لأساتذته وخصوصا فريد جبر وجيروم غيث في جذوة الفلسفة والتفكر والتأمل. ولا يخفي إعجابه بنظرية الإدراك الحسي لهنري برغسون وفيها الأساسي الصالح لتخطي المثالية والواقعية في نظرية المعرفة، وهو الذي كتب رسالة  الكفاءة في كلية التربية عن الفكر الإجتماعي عند هنري برغسون (1969).

ولكن ما يميز فارس ساسين حقا قدرته على تأصيل أكاديميته في الحياة وفي العلاقة   مع الآخرين بتواصل وتلقائية وعفوية، وفي ربط الفكر بالواقع عبر معاناة ذاتية موضوعية يستخلص منها موقفا. اتسعت همته للاهتمام بالتاريخ والمتاحف وتجارب الأحزاب والواقع اللبناني مشددا على العقلانية و”أن لبنان بحاجة في كل ركن فيه إلى أن نشغل عقلانيتنا فيه ونحاول التغيير بدءا من مواجهة الطائفية السياسية وثقافة التوريث”.

كان لديه شغف هائل بالفن ويحرص على ترداد قول أدورنو ” الفن هو السحر وقد نزعت منه صفة الواقع”.

اهتم فارس ساسين بنصوص المبدعين اللبنانيين. وكان يعتبر الفيلسوف ناصيف نصار صاحب نص فلسفي عربي أصيل. ويرى بالشاعر جودت فخر الدين الأهم والأبرز بين شعراء جيله. ويتحمس لنصوص صديقه الأثير جبور الدويهي وهدى بركات. وكان يسعى لأن يظفر بالكتاب الكتاب. مدينته زحلة هي إيابه الأخير في آخر النهار أو آخر الأسبوع وهو مستعد دائما. اشتركنا معا في مناقشة كتاب فارس يواكيم عن “ظلال الأرز في وادي النيل” في مهرجان الكتاب في أنطلياس. كما تبادلنا الكتب بهمة الصديق  المشترك جوزف صايغ وخاصة كل جديد واعد أو قديم نادر.

كان في السنوات الأخيرة منشغلا بتدوين السيرة السياسية والفكرية لغسان تويني، ولا أعرف إذا ما أنجزت أم باتت في مراحلها الأخيرة. روى لي غير مرة أنه كان في زيارة لغسان تويتي وقد استبد به المرض وصعوبة النطق. اندهش ساسين وهو يودعه كيف نطق التويني هذه العبارة وخصه بها لوحده بين الحاضرين: “الله معك يا فارس…” ابتسم فارس كمن تلقى هدية قيمة.

نودع مع فارس ساسين زمنا جميلا وتعبا طيبا وفكرا قيما ومثقفا موسوعيا وإنسانا خلوقا.

“الله معك يا فارس…” أنرت واستنرت ورأت ابتسامتك الحياة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *