عبد الغني طليس في قلب العملية الشعرية

Views: 833

 سلمان زين الدين

   يأتي اختيار المكتبة الوطنية الفرنسية مؤخّرًا، لمجموعة “موسى الصدر يحاكم الزمن العربي” الشعرية، للشاعر عبد الغني طليس، لتكون ضمن معروضاتها المتاحة للقرّاء، ليشكّل اعترافًا ضمنياًّ بمسيرته الشعرية المستمرة، منذ أربعة عقود ونصف العقد. وهي مسيرة تمخّضت، حتى الآن، عن ست مجموعات شعرية. هي: “هيك بحب حببيبي” 1975، “صعد إلى حبه وقال” 1995، “ما تيسّر من عبد” 2010، “فوق رؤوس العالمين” 2013، “دعوة إلى عرس قيس وليلى” 2015، وموضوع هذه العجالة “موسى الصدر يحاكم الزمن العربي” 2018. وإذا ما قارننا عدد المجموعات بعدد السنين، يتبيّن لنا أن عبد الغني طليس شاعر مقلٌّ في إصداراته الشعرية، ذلك أن عشرين عامًا تفصل بين مجموعتيه الأولى والثانية، وخمسة عشر عامًا تفصل  بين الثانية والثالثة، فيما لا يتعدّى الفاصل الزمني بين المجموعات الأخيرة الثلاثة أعوام بين مجموعة وأخرى. ولعل هذا الإقلال يعود إلى انشغال طليس باهتمامات أخرى غير بعيدة من الشعر كالتلحين والكتابة والتعليم والتقديم، مع العلم أن الشعر لم يكن، في يوم من الأيام، مسألة كم، بل هو مسألة نوع بامتياز.

  في الشكل، وعلى الرغم من أن عنوان المجموعة يقتصرعلى السيد موسى الصدر، ما يوحي، للوهلة الأولى، أنّها تتمحور حول هذه الشخصية التاريخية، فإنّ المتن سرعان ما يبدّد هذا الإيحاء. ذلك أنّ ثُلُثَيْه الأوّلين يشتملان على أربع قصائد طويلة، يتراوح طول الواحدة منها بين أربعة وخمسين بيتًا، في الحدّ الدنى، وتسعين بيتًا، في الحدّ الأقصى. تتمحور حول أربع شخصيات تاريخية، دينية وسياسية وشعرية وفنية، هي: الإمام علي بن أبي طالب، السيد موسى الصدر، الشاعر أبو الطيّب المتنبّي، والفنان عاصي الرحباني، فيما يشتمل الثُلُثُ الأخير على إحدى وأربعين قصيدة قصيرة، يتراوح طول الواحدة منها بين بيتين اثنين، في الحدّ الأدنى، وثمانية أبيات، في الحدّ الأقصى. تتناول موضوعات مختلفة. 

  في الأساس، يتخذ عبد الغني طليس من أربع شخصيات تاريخية، تُعتَبَر كلٌّ منها قمة في مجالها، موضوعات لقصائده الطوال. وتشكّل القصيدة مجالاً حيوياًّ للتفاعل بين الشاعر والشخصية، أي بين الذات والموضوع. الشاعر يأتي مزوّداً بمرجعياته الثقافية المختلفة، وذائقته الفنية الكلاسيكية، ولغته المتينة، وخياله المجنح. والشخصية تطلع من التاريخ، القديم أو الوسيط أو المعاصر، تطرح الحالة، وتثير الأسئلة، وتولّد الأفكار. وينخرط الاثنان في علاقة جدلية تتمخّض عن القصيدة. يقوم الشاعر بتحرير الشخصية من إسار التاريخ، ويعيد إنتاجها بالشعر، فتفارق شخصية القصيدة شخصية الواقع، وتنتمي إلى الشاعر بقدر انتمائها إلى الحقيقة التاريخية. على أن التفاعل بين الطرفين تتعدّد مستوياته، وتتنوّع تمظهراته،  وتختلف درجات شعريّته من قصيدة إلى أخرى، تبعاً لميول الشاعر واستعداداته وملكاته الفنية.

  ينطلق الشاعر في التعامل مع الشخصية الموضوع من وقائع تاريخية معيّنة، تشكّل مادة أولية في بناء القصيدة، فيتكلّم عنها أو معها، كما في تعامله مع الإمام علي والسيد موسى الصدر وأبي الطيّب المتنبي، أو يترك لها زمام الكلام، كما في تعامله مع عاصي الرحباني. وتختلف تمظهرات الكلام / الشعر من شخصية إلى أخرى؛ فهو شكوى وإعجاب وفخر ومدح في موسى الصدر. وهو تعظيم وتقديس وإعلاء في الإمام علي. وهو مدح وعتاب واستجواب وإكبار في المتنبي. وهو فخر واعتداد بالذات وافتتان بالنفس في عاصي الرحباني. وبذلك، تجتمع أغراض شعرية عدة في القصيدة الواحدة.

  على أن علاقة الشاعر بالشخصية الموضوع تختلف، بدورها، من شخصية إلى أخرى؛ فالإمام علي جاره وصديقه وراعيه. والسيد موسى مشكى ضيمه وتاج رأسه وناصحه. والمتنبي صديقه وحبيبه ومولاه. أمّا عاصي الرحباني فلا تصرّح القصيدة بطبيعة علاقة الشاعر به لكن شعريّتها العالية تشي بموقع الشخصية من الأنا الشاعرة. وإذا جاز لي أن أحدّد موقع كلٍّ من المطوّلات الأربع على “غراف” الشعر، يمكن القول إنه كلّما ابتعد طليس عن السياسة واقترب من الفن ترتفع درجة الشعرية في القصيدة. وترجمة ذلك أنها تتدرّج صُعُدًا من السيد موسى إلى الإمام علي إلى المتنبي إلى عاصي الرحباني التي أزعم أنّ قصيدته فيه تشكّل ذروة شعرية، ليس في هذه المجموعة وحسب، بل في المجموعات الشعرية الست.

   تتعدّد المرجعيات الثقافية التي يصدّر عنها عبد الغني طليس في مجموعته السادسة. وإذا كان المقام لا يتّسع للإحاطة بها جميعًا، فحسبنا الإشارة إلى بعضها، انطلاقًا من القصيدة الأطول التي يطلق الشاعر عنوانها على المجموعة. فهو يصدّر عن: مرجعية فنية (أغنّيك من أعلى جراح غنائي / فتأتي كرؤيا والقصيدة راءِ)، ومرجعية طبيعية (لعلمك موسى الصدر أياديك أغصنٌ / تموج فتحيي خاطر الضعفاءِ)، ومرجعية دينية ( فكان اختطافٌ في جحيم معمّرٍ / لتخل موسى الصدر عصر خفاءِ)، ومرجعية أسطورية ( ولكنّ لبنانًا خبير خلاصه / وعنقاؤه قامت من الحطماءِ)، ومرجعية رّعوية (فصالت وجالت ثمّ شحّ حليبها / فسيقت إلى البيّاع مثل جداءِ)، وغيرها. ولعلّ هذا التعدّد المرجعي يقوم بوظيفة مزدوجة داخل القصيدة؛ فهو يُغني المضمون، من جهة، ويُجمّل الشكل، من جهة ثانية.

  إذا كان الناقد السوري كمال أبو ديب يبني الشعرية على التضاد، فإنّنا في كتاب طليس نقع على ثلاثة أنواع منه، على الأقل. الأوّل هو التضاد بين الكلمات، وهو ما يتّخذ شكل الطباق حين تكون الكلمتان المتضادّتان متجاورتين. والثاني التضاد بين الجمل وهو ما يطلق عليه، بالمعنى البلاغي، اسم المقابلة. والثالث التضاد بين المقاطع وهو ما نراه بوضوح في قصيدته عن عاصي الرحباني التي يصوغ نصفها الأول بصيغة المتكلّم المفرد، على لسان عاصي، ويصوغ نصفها الثاني بصيغة المتكلّم الجمع، على لسان عاصي ومنصور. وعليه، تكثر في القصائد الثنائيات المتضادة، على أنواعها، القريبة والبعيدة، الأفقية والعمودية، في المفردة والجملة والقصيدة. وتتشكّل الشعرية من حركة الشاعر المكّوكية بين الأطراف المختلفة لهذه الثنائيات.

  من جهة ثانية، يستخدم الشاعر لكلّ حالة لَبوسَها من صيغ الكلام؛ ففي معرض تعبيره عن النرجسية العالية في قصيدته عن عاصي الرحباني تتكرّر كلمة “انا” خمس عشرة مرّة في القصيدة. بينما يلفت في قصيدته عن المتنبي إكثاره من استخدام صيغة المبالغة “فعّال” في مدح شاعره، ما ينسجم مع ميزة المبالغة التي تطبع شعر المتنبي، فهو ملاّك الملوك، سرّاق القلوب، ضرّاب السيوف، وقلاّب الملاحم، على سبيل المثال لا الحصر. وبذلك، تتحقق في شعره مقولة مناسبة الكلام لمقتضى الحال البلاغية.

  أمّا القصائد القصيرة في الديوان، فلعبد الغني معها شأن آخر. فهي، بمعظمها، تأمّلية في أحوال الإنسان والكون والحياة والموت. يطرح فيها الشاعر الأسئلة الكبيرة أو يقرّر الحقائق القاطعة. والقصيدة غالبًا ما تبدأ بمقدّمة معيّنة تُبْنى عليها نتيجة محدّدة، هي سؤال مفتوح على المدى أو حقيقة مقفلة على ذاتها. والملاحظ أن هذه القصائد يطغى عليها البعد الديني الإيماني ما يتناسب مع المرحلة العمرية لصاحبها.

   وبعد، “موسى الصدر يحاكم الزمن العربي” شهادة للشكل العمودي في القصيدة العربية الذي لم تستطع كل محاولات التحديث أن تطيح به. فالتجديد في البحر يكون من خلال حركة الموج وتعاقب المد والجزر وحركة الأنواء، لا من خلال تحطيم البحر وما يمكن أن يتسبّب في “تسونامي” يجتاح الأخضر واليابس. والبحر الشعري، في هذا المقام، لا يختلف عن البحر الطبيعي. بهذا المعنى، يأتي ضمّ المكتبة الوطنية الفرنسية للديوان إلى قائمة محتوياتها ليشكّل خطوة في الاتجاه الصحيح. ويثبت عبد الغني طليس أنّه شاعر بامتياز، لا ينتقص من شاعريّته تجاهل البعض، ولا يزيد فيها اعتراف البعض الآخر.  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *