ماذا يعني أن تكون بيروتياً ؟

Views: 410

   زياد كاج

قرأت مؤخراً ” بوستًا ” سوداويًا على ” الفايس بوك” لفتاة مثقّفة مرهفة الإحساس تقول فيه بصراحة إنها تكره مدينة بيروت، معللة موقفها  بإصابتها وصدمتها النفسية في إنفجار 4 آب ( بيروتشيما) ومن المشاهدات التي صادفتها في الشوارع والمستشفيات وفقدانها لأصدقاء وأحبة كثر. فنصحتها طبيبتها النفسية بالابتعاد عن بيروت والإقامة المؤقتة في الجبل كي تستعيد توازنها وسلامها الداخلي.

      لا لوم ولا عتاب على موقفها البريء والعفوي لأن الحياة علمتني أن من يعش الفظاعات على الأرض ليس كمن يقرأ عنها أو يشاهدها على التلفزيون . وبيروت تبقى هي الضحية وجلادوها كثر.

 سؤال يُطرح اليوم بعدما وصلت بيروت الى ما هي عليه  من إهمال وفوضى  وغرق في العتمة وتسيب وغياب  للأمن وللأجواء الثقافية والمدنية والريادة على مستوى الوطن والعالم العربي، هل تستحق بيروت منا اللوم وتحميلها ما لا تحتمل؟ وهي المدينة التي طالما احتضنت الجميع من دون سؤال عن هوية أو انتماء أو منة. هل بيروت مسؤولة عمّا يحصل فيها أم أن هناك من يستهدفها بهدف تدميرها معنوياً وتهميش دورها للتحول كما شارع الحمراء اليوم؟ شارع وسخ، راكد، تسوده الفوضى، والمتسولون وبائعات الهوى( من فئات عمرية شابة)  يطاردون من في جيبه عملة صعبة في زمن صعب. شارع تشعر أنه في حالة التسليم والاستسلام للقدر.

  محزنة ومحبطة—بل صادمة– المشاهد في بيروتنا هذه الأيام:   زحمة سير خانقة، صفوف طويلة أمام محطات البنزين، غياب تام للخدمات الأساسية، كمامات على الوجوه خوفاً من الكورونا، غلاء فاحش ، وطبقة سياسية  أصابها الطرش والعمى في حفلة جنون وانهيار شامل. وجوه سكان المدينة الصابرة تعكس حالة من اليأس والقنوط من الأزمة الاقتصادية الخانقة وانسداد الأفق. أصحاب المحلات يجلسون على كراسيهم على الأرصفة في انتظار زبون لن يحضر. كأننا في مسرحية “بإنتظار غودو” لصموئيل بيكيت.

ما عادت بيروت كما كانت بعد 4 آب وبعد افتضاح أمر النواطير الذين تبين أنهم ثعالبها. بيروت تتألم مع كلم جرح يصيبها كما يصيب أطراف البلد. رأس لجسد واحد. كارثة “التليل” في عكار أدمت قلوب أهل المدينة والبلد على ناس تُركوا في مستنقع من الحرمان والجهل والعوز. حتى من تاجر باسم حرمان عكار لم يجرؤ على زيارة مكان الفاجعة وبلسمة الجراح.

   ماذا يعني أن تكون بيروتياً اليوم ؟ ونحن والمدينة والبلد قد أصبحنا في  قعر الهاوية ولا يد تمتد لغريق.

   أن تكون بيروتياً يعني أن تشعر بجراح وآلام المدينة كأنها في جسدك وروحك. أن يتفتت قلبك لرؤية سائق عمومي سبعيني يموت خلف المقود بعد انتظار ساعات في طابور الذل أمام محطة وقود. كبريائك من كبريائها وكرامتها من كرامتك. كبيروتي أن القادر على عد  والاطمئنان على أشجار الشوارع وتفقد وجوه الناس المألوفة. أن تسترق النظر للفرح المختبئ  والصامد في الشوارع، وأن تحتفل بخطاك في شارع مار الياس، وأن تغازل الليل في بدارو، وأن تطيل النفس والنظر في شارع المزرعة، وتفترش ساحة ساسين والأشرفية، وتتنشق رحيق أرواح الشهداء في الجميزة العصية على الموت والخارجة للتو من رماد يخبئ جمرات حقيقة مرة.

   أن تكون بيروتياً يعني أن تتقن الحديث مع الحيطان والأرصفة وشارات السير العمياء عمداً. فكل حجر وكل رصيف وكل شارع يختزن مئات القصص والخبريات. حتى واجهات المحال في بيروت تحكي لغة مختلفة وناس المدينة متشابهون وإن اختلفوا. لقد آلفت بينهم المدينة الساحرة بإكسيرها الخاص. لا هم أن كنت مسلماً أو مسيحياً، أو على خط عمر أو علي،  أو من أهل التوحيد..المهم أن تكون بيروتياً يعني أن ينبض قلبك وتُطرب لكل آذان وجرس كنيسة مشرقية وغربية   ولصوت مجلس عزاء حسيني حزين.

بيروت مدينة “ترّوض” ساكنيها وتحولهم مع الأيام الى أصحاب ذوق وإحساس خاص وسكينة  كجمهور الموسيقى الكلاسيكية النخبوي .

   أن تكون بيروتياً يعني أن تفهم لغة بحرها وأبجديته من شمس ورياح وصيادين وقوارب وعيون أسماك تكتشف البر لأول مرة وترتعد خوفاً. أن ترتشف قهوة الصباح وتقول “الله” وتسمع فيروزيات الصباح، وتترنح ليلاً على صوت كوكب الشرق وتراقب نجوم السماء الواعدة. لرنين فناجين قهوة الصباح في مدينتا صدى مختلف. لاسترخاء ناسها  مساءً بعد تعب نهار إحساس أيضاً مختلف. ترميك المدينة بشعاع أمل واعد “لحظوي” لا تعرف مصدره.

الصحافي رياض كاج

 

   أخي رياض -البيروتي الأصيل- عائد الى بيروت بعد غياب سنتين بسبب جائحة الكورونا . متواضع، عصامي ، مثقف، صنع نفسه بنفسه. يعشق المشي في شوارع مدينته والتحدث مع ناسها الطيبين. وهذا حال معظم البيارتة من الطبقة المتوسطة التي قيل إنها إنتهت.   صحافي محترف بدأ حياته المهنية من أسفل السلم ليصل الى مدير تحرير في القسم الأنكليزي التابع لوكالة “كونا” الكويتية. متواضع فوق العادة، تسكنه الدروشة وشيء من الصوفية. يكره المظاهر وبينه والهاتف عداوة. قليل الكلام ساكن في مملكة الصمت والحكمة. يعود الى بيروت وكله شوق للمدينة التي صنعته. المدينة التي ترعرع في أحيائها الشعبية وسبح مع شلته في بحرها قرب صخرة الروشة. بداياته كانت في ملاعب كرة القدم في رأس بيروت والمدرسة الرسمية ودكان جدي في البلد قبل إندلاع الحرب الأهلية. من المدرسة الرسمية الى الجامعة اللبنانية وجامع الفاروق في عائشة بكار وجد أخي نفسه في مهنة البحث عن المتاعب.

      بيروت  مدينة إن بقيت فيها شعرت بالتميز والخصوصية رغم كثرة المشاكل وضيق العيش. كثر من الأصدقاء أتوا بيروت من الشمال والجنوب والبقاع والجبل . حلوا فيها وسكنتهم. ابتلعتهم المدينة ثقافياً. وما عادوا أهل قرى وما “تبيّرتوا” بالكامل. وكثر من أهل بيروت الذين تركوها الى أماكن  بعيدة في البلد والخارج حملوها معهم في ذاكرتهم ووجدانهم.  بيروت مدينة مثيرة للدهشة مثل امرأة ناضجة ساحرة غير قابلة للترويض أو الاكتفاء بإنتماء ولون واحد. مدينة مزركشة وملونة. يفهمها الشعراء والرسامون والمثقفون أكثر من رجال الأعمال والتجار وأهل السياسة .

   أخبرتني زوجتي الممرضة  منذ سنوات أن إحدى زميلاتها   كانت عائدة ليلاً من دوام مسائي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، فتعطلت سيارتها على جسر الكولا والوقت في منتصف الليل. نزلت من السيارة وهي في حيرة من أمرها. لمحت مجموعة سيارات قادمة من بعيد أخذت تُبطئ كلما اقتربت منها. توقفت قربها سيارة مرسيدس فارهة. نزل الزجاج الخلفي الداكن ليظهر الرئيس الشهيد الرئيس رفيق الحريري مبتسماً يسأل عن مشكلتها. تأثر لحال  ممرضة وحدها في منتصف الليل، فأمر مرافقيه  البقاء معها لإصلاح سيارتها وأكمل طريقه الى قصره في قريطم.

    حدث ذلك على جسر الكولا ليلاً في قلب بيروت. رفيق الحريري كان صيداوياً أحب بيروت وأهلها. كان كادحاً في شبابه؛ تعب واشتغل وضحى الى أن وصل. أحب بيروت وأهلها وهم بادلوه الحب والوفاء.  نزل اليهم ولم يطلب منهم الصعود اليه.

المدينة يتيمة اليوم؛ تئن من الإهمال ولا مجيب.

   كان الرجل  بيروتياً.

 

                               

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. وصف مبدع لحال بيروت اليوم يحاكي الواقع بدقة موجعة. انا لست بيروتية لكني بيروتية الهوى الى الأبد و بالرغم من كل شيء. كل التقدير لك و الحب لبيروت…