الحدودُ الفاصلة بين ما هو “مُحلّلٌ”  قولُهُ وما هو مُستهجَنٌ أو “مُحرّم”!

Views: 79

د. مصطفى الحلوة

الأديبة إبتسام غنيمة تناولت، بمقالة، نشرتها في صفحتها على الفايسبوك (25 تموز 2023)، موضوعًا إشكاليًّا، حول المؤخَّرة (الطيز، وفق تعبيرها). تبريرًا لخطاب (Discours) المؤخّرة، وتعبيرًا عن تحرّجها، توسّلت، إستهلالًا، العبارة الآتية: “بلا مستحى”، على رغم ذهابها إلى أنّ ثمّة اعتيادًا على استعمال كلمة المؤخّرة، في حياتنا اليوميّة، وفي أمثالنا الشعبيّة، بشكل عفوي، ومن دون خجل ولا تفكير!

وإذْ راحت الأديبة غنيمة إلى عدد من السياقات، التي تُستخدم فيها هذه المفردة (الطيز)، فقد اخترنا من مقالتها بعض فقرات: “وْعِيْتْ من طيز الضوّ، رحتْ عَ الفرن. مع إنّو الطريق  فاضية، في واحد فات بطيزي، وضربلي السيّارة (..) نزلتْ شوف القصّة، وقد ما طيزو تقيلة، ما كان يهزها..”.

تعقيبًا، لا نستميح القرّاء عذرًا، لأنّنا لم نرتكب “جُرمًا”، في إيرادنا هذا المقتطف، حيث للمفردة المذكورة (أي مفردة الطيز)، إلى عشرات المفردات، التي تدور في فَلَك الأعضاء الجنسيّة/التناسليّة، حضور دائم في كلامنا اليومي، تتردّد على كلّ شفة ولسان..يُردّدها الجاهل والعالم، المتعلمون وأشباه المتعلمين. علمًا أنّ للفئات الشعبية النصيب الأوفى، في هذا المجال، كونها تُعاني حرمانًا جنسيًّا، وعدم القدرة على تلبية نزوعاتها الجنسية، بالشكل المطلوب! هكذا يكون لجوء إلى المتخيَّل بديلًا من الواقع الحسّي المادي!..وكثيرةٌ هي الأمثلة، فحين يتوجّه أحدهم إلى آخر بالقول، ممازحًا أو جادًّا،:”عضوي الجنسي فيك” (بالطبع يورد العبارة بالشكل المعهود!)، فإنّ ذلك يشي برغبة لاواعية دفينة، لدى هذا الشخص، لقضاء وطره الجنسي “كلاميًّا”، إذا جاز القول!..وقِسْ على ذلك مختلف العبارات الجنسية الشبقيّة، التي يحفل بها كلامنا اليومي، والتي تتردّد على مسامعنا، مُجسّدةً الحرمان، أو “الجوع الجنسي العتيق”، لدى شرائح واسعة من مجتمعنا.

..في عودة إلى ذكر “عورات” الجسد، حصل لي مرّة، بعض إشكال، في مداخلة لي حول الفن الروائي، لدى الكاتب اللبناني رشيد الضعيف. وإذْ استشهدتُ بعبارات شبقيّة، وردت في تضاعيف رواياته، كان لفريق من الجمهور أن يطلب الإعراض عن ذلك، لعدم خدش الحياء الجَمْعي!

في هذا الصدد، لا بدّ من استنطاق أحد كبار الكُتّاب العرب، في العصر العباسي، إبن قتيبة الدينوري، حيث جاء في كتابه “عيون الاخبار”: “وإذا مرَّ بك حديثٌ، فيه إفصاحٌ بذكر عورة أو فَرْج أو وصف فاحشة، فلا يحملنّك الخشوع أو التخاشع على أن تُصعّر خدّك وتُعرض بوجهك، فإنّ أسماء الأعضاء لا تُؤثِم، وإنّما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب”(لمراجعة، ما قبل مقدمة كتاب “الروض العاطر في نزهة الخاطر”، للشيخ النفزاوي، ص 9، صادر عن رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1993”).

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإنّني واقعٌ في ورطة، تتمثّل، في كتاب لي سيصدر في الآتي من الشهور، عنوانه “خطاب المحكية الطرابلسية (الشاميّة)/قراءة في الدلالات النفسية والاجتماعية”، وهو يضمّ حوالى ثلاثمائة خطاب (Discours)، في عِدادها خطاب السبّ والشتم. والسؤال: هل أُبقي على هذا الخطاب، المُترع بكلمات جنسيّة ومن “الزنّار ونازل”، أم أُعرض عنه، التزامًا، بما تفرضه “القيم” الأخلاقيّة؟ وإذا التزمت الخيار الثاني، فسوف تكون فجوة في بحثي العتيد وغير المسبوق، وهو بحث يحفظ للأجيال المقول الطرابلسي الطاعن في الزمن!

لقد وجدتُ ضالتي في عدد من المؤلّفات/المصادر، التي خلّفها لنا كُتّاب فقهاء وعلماء دين وأئمة مذاهب دينية إسلامية، لم يتورّعوا عن ذكر الاشياء بأسمائها، خدمةً للعلم والحقيقة، فحفلت مؤلّفاتهم بكل ما يعود إلى خطابات الجنس: كلمات، ومصطلحات، وتعابير، وطُرَفًا وقصصًا، لا تخطر على البال! وبهذا، فهم يُشرّعون الطريق لكلّ باحث جادّ، بعيدًا من استنفار المحظورات والموانع المحرّمة (Taboo)، التي تُشكّل عامل كبح للخوض في موضوعات الجنس، وهي موضوعات، تعاطاها الإسلام، كواحدة من حقائق الحياة!

في جملة المؤلّفات/المصادر كتاب “نزهة الألباب فيما لا يُوجد في كتاب” للإمام التونسي شهاب الدين أحمد التيجاني (1184-1253م)، وهو مرجع، ينتمي إلى الأدب “الإيروتيكي”، إذْ يُقدّم مسحًا شاملًا للظواهر الجنسية، المتخفّية والظاهرة، في المجتمع الإسلامي، حتى نهاية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، متناولًا طبقات القوّادين والزُناة واللوطيين والمساحقات، وأساليب عملهم.

دعمًا لاطروحتنا،ثمة مصدر آخر، هو كتاب “تُحفة العروس ومُتعة النفوس”، وضعه قاضي الأنكحة في تونس، أيّام الدولة الحفصيّة، وهو أحد ائمة المالكيّة محمد بن أحمد التجاني (توفّي 1309م). وقد جاء هذا الكتاب/المصدر مرآة، تُجسّد ماضينا، بكلّ ما فيه من مواطن الخير والقوّة والصلاح والفساد والانحلال. وبحسب نقّادنا المُحْدثين، فإنّ هذا الكتاب يتموقع ضمن “الأدب المكشوف”، حيث تُذكر أعضاء الجسم، تصريحًا لا تلميحًا!

ومن مصدر آخر أيضًا، “الروض العاطر في نزهة الخاطر” للشيخ النفزاوي، سبق ذكره (مُتوفّى 1324م)، وهو من أعلام الدولة الحفصيّة. وهذا الكتاب أربى على سابقَيه، في استعراضه المسألة الجنسيّة، وليُشكّل مرجعًا لا غنى عنه للمشتغلين في “صناعة الجنس”، في عصرنا الراهن. ناهيك عن كونه مُعجمًا وافيًا لكل ما يرتبط بقضايا الجنس!

..كما الشمس، فاضحةٌ كلّ الأمكنة، بنورها المشعّ، فإنّ الأدب وأيّ لون من ألوان المعرفة يجب أن “يُظهّر” كلّ ما يقع في مرمى بصره وسمعه، وسائر أدوات استشعاره! (Xanax)

***

*من بيادر الفسابكة/قراءة نقديّة في قضيّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *