الفردُ بينَ الإصْلاح الأخلاقيّ والتَّمكين الحُقوقيّ

Views: 278

نبيل علي صالح*

 

لمْ تتمكّن مجتمعاتُنا العربيّة، ومعها الكثير من المُجتمعات الإسلاميّة، من السّير الطبيعي الطوعي (المُرتكِز على إرادة واعية وقناعة ذاتيّة ومبادئ حقوقيّة وأخلاقيّة) في ضوء أيّ مشروع أيديولوجيّ سياسيّ نهضويّ دُعيتْ إليه – أو دُفِعتْ باتّجاهه – منذ عقود طويلة إلى يومنا هذا.. فكلّ تلك المشروعات السياسيّة والاقتصاديّة (التنمويّة!) فشلتْ أو أُفشِلت؛ والتكاليف التي دُفعت على طريق محاولة تمثُّل تلك المشروعات كانت باهظة الثمن من الناحيتَين الماديّة والمعنويّة..

وهي تكاليف مدفوعة للأسف حتّى من مستقبل الأجيال اللّاحقة، ومن حقّها المستقبلي في مَوارِد الأمّة وثرواتها.. والواقع القائم حاليّاً في دنيانا العربيّة يؤكِّد ذلك؛ والأرقام ثابتة ولا يُمكن التهرّب منها أو تغطيتها بغربال أو ببعض الكلمات الدعائيّة والشعاراتيّة المُضلِّلة.

وعدم انخراط أو مُشارَكة شعوبنا العربيّة، بصورة واعية وكثيفة في تلك المشروعات، لم تتمّ دراسته والوقوف جديّاً على أسبابه إلّا قليلاً. وحتّى عندما توضّحتْ بعضُ تلك الأسباب، لم يؤخَذ بنتائجها ومُقترحاتها، بل بالعكس، تضخّمت أزمة تلك المشروعات كميّاً، وباتت كتلاً صلبة ومَتاريس جامدة على مستوى الوعي والفكر والسلوك العَملي.

وبتدقيقٍ ذاتيّ، نُلاحظ أنّه قد ظهرت أمامنا طريقتان أو أسلوبان للتفكير والتأمّل في أسباب السقوط والانحدار المجتمعي السياسي والتنموي العربي المُستمرّ منذ عقود وعقود.. فقد مالَ بعض المفكّرين والنّخب (السياسيّة وغير السياسيّة) إلى تحميل الفرد مسؤوليّة الفشل من خلال هَيمنة ثقافة تقليديّة عليه، فتبنّوا فكرة إصلاح هذا الفرد أوّلاً من الناحية الأخلاقيّة والنفسيّة، أي العمل على تربية الأجيال وإصلاح الفرد أوّلاً، لأنّ هذا (في نظرهم ومُعتقدهم الأيديولوجي) هو قاعدة وأساس أيّ إصلاح وتغيير حقيقي سيمكِّن من التطوّر والازدهار اللّاحق.. بينما ذهب كثير من المثقّفين النقديّين (العضويّين) إلى اعتماد فكرة الإصلاح الحقوقي المؤسَّسي الفردي والعمومي وطريقته كأساسٍ لتطوير المُجتمعات وتحديثها، وذلك انطلاقاً من فكرة بناء الدول المدنيّة القويّة والعادِلة، بعد إحداث التغيير السياسي المنشود، وفتْح الحياة السياسيّة العربيّة، وإنهاء الاستبداد والقمع والإقصاء السياسي وغير السياسي.

في الحقوق الأساسيّة للفرد

وإنّنا إذا نقدِّر أهميّة الطريقة الأولى، طريقة الاعتماد على تربية الشأن الداخلي للفرد وتقويمه كأساس لعمليّة الإصلاح، ونعتبره كلاماً وتحليلاً صحيحاً في بنيته النظريّة.. ولكنّنا نعتقد أنّه – من الناحية العَمليّة – كلامٌ مثاليّ وتحليل غير واقعي، حيث لم تعرف البشريّة سبيلاً له في تاريخها كلّه، منذ أن قَتل قابيل أخاه هابيل… فالفردُ البشري – بطبيعته وذاتيّته – مجبولٌ على حُبّ الذّات وطغيان المَصالح الخاصّة؛ وعنده نزعات أوليّة وحاجات رئيسة يجب تلبيتها والاستجابة الواعية لها، وتهيئة ظروف خيّرة لتحقّقها. ولا آليّة حقيقيّة وواقعيّة وعمليّة لتحقيق ذلك سوى الحقوق والعدالة، بمعاييرها وحدودها الأساسيّة المعقولة.

من هنا يأتي قولنا إنّ الحقوق أهمّ من الأخلاق، بل ومتقدّمة عليها؛ وإنّ الحقوق عند إنجازها هي التي تربّي الفردَ وتُصلحُه وتكرِّسه ضميراً متحرِّكاً، وتَسيرُ به على طريق الأخلاق والفضائل الحياتيّة العمليّة..

فالحقوق أوّلاً وثانياً وثالثاً… ومن ثمّ الأحكام والقوانين والأخلاقيّات؛ بحيث لا يُمكن مُطالَبة الناس بالخضوع للقانون وهُم كارهون له ورافضون نفسيّاً لمُقتضياته، بل لا بدّ من تهيئتهم حقوقيّاً لتقبّله والانفتاح عليه بوعي ومسؤوليّة وإرادويّة طوعيّة، وهذا غير مُمكن من دون منْح الحقوق الفرديّة وتطبيقها عمليّاً في السلوكيّات الفرديّة والمؤسّسيّة.. فكفانا مثاليّات ورومانسيّات فكريّة أيديولوجيّة لا علاقة لها بواقع النَّفس والحياة والواقع البشري..!!.

طبعاً هذه القناعة أو هذا التحليل المتلمِّس للحلول الواقعيّة، قد لا يعجب أتباع النظرة الخلاصيّة والمُطلقات التماميّة، وقد يستشكلون عليه بأنّ موضوعة الحقوق ليست مُنزَلة، وأنَّ من يقوم بتطبيقها هُم في النهاية بشرٌ أصحاب مَصالح وغرائز.. بالتالي لا بدّ من تربيتهم وتنشئتهم أخلاقيّاً (من الداخل) حتّى يتمثّلوا معنى الحقوق، وليقوموا لاحقاً بتطبيقها بين بعضهم بعضاً وعلى مجتمعاتهم.

بطبيعة الحال، الحقوق الأساسيّة للفرد البشري المعروفة (وهي حقّ الحياة وحقّ الحريّة والتحرُّر، وحقّ الأمان الشخصي، وحقّ العدالة والمساواة وحقّ التوزيع العادل للثروة وحقّ التعليم وحقّ العقيدة… إلخ) ليست مُنزَلة من السّماء (من حيث آليّة التطبيق والتصرُّف)، مع أنّ التشريعات الدينيّة والقوانين الوضعيّة كلّها أكَّدت عليها، وطالبت بتطبيقها في حركة الفعل البشري. وهناك تجارب بشريّة ونماذج واقعيّة عمليّة ناجحة قدّمها كثير من الدول والمُجتمعات من خلال المدنيّات التي بناها وأشادها الإنسان والدول الحضاريّة والقوانين المؤسّسيّة التي اكتشفها وصاغها.

ونحن هنا لا نختلف كثيراً – في المضمون والجوهر والاستراتيجيّة – مع مَن يقول بأهميّة إصلاح المضمون الداخلي للفرد.. لكنّ صعوبة المسألة تكمن، في آليّات التطبيق العَمَلي، من حيث إنّنا، من خلال التجارب الاجتماعيّة والسياسيّة الكثيرة التي وقفنا عليها ومَررنا بها في عالَمنا العربي والإسلامي (منذ فترات زمنيّة طويلة)، رأينا في الواقع العملي – وليس في التفكير الرغبوي المثالي – أنّ التخلّف استمرّ وما زال، ولاحظنا أنّ الفرد عموماً لم ينصلح، بل بات فاقداً حتّى لحقّه في الحياة الحرّة الكريمة في كثير من مُجتمعاتنا ودولنا العربيّة التي لا قيمة فيها للفرد كذاتٍ حرّة مستقلّة لها حقوق وحاجات ومَطالِب.. حتّى أنّنا عايّنا وجود كثير من المؤسّسات والنُّظم والتيّارات والمرجعيّات (الرسميّة وغير الرسميّة) اشتغلت على الموضوع، ولكن كان الفشل والسقوط حليفها على وجه العموم. نعم هناك أسباب وتعقيدات وأمراض ومؤامرات وووإلخ.. ولكنْ في المحصّلة، يبقى السؤال: إلى متى يرتهن الناس للوقت والانتظار السلبي ووعود الإصلاح المستمرّة منذ عقود وعقود؟! وإلى متى تنتظر الجماهير والمُجتمعات وهي تتراجَع وتتقهقر وتتفاقَم خسائرها يوماً بعد يوم؟!!… قرون عديدة مرّت ولم ينصلح أيّ شيء، والكلّ يريد إصلاح الفرد بالذات.. والأوضاع تسوء والحكومات والنّظم السَّائدة المُهيمِنة تتسلّط وتنهب وتفسد وتمنع تنمية الفرد وتطوُّره التنمويّ ومُشارَكته بالسلطة والقرار والمسؤوليّات.

وهنا قد يُقال – تبريراً ودفاعاً – أنّ التطبيق فاشلٌ والنظريّة صحيحة (الخطأ بالتّجربة والفكرة مقدَّسة وصحيحة).. نعم ربّما يكون هذا صحيحاً.. مع أنّها نغمة مُستمرّة منذ زمن طويل، ولم تعُد تلقى قبولاً لدى غالبيّة الناس.. طيّب فلنجرِّب إصلاح بنية الدول ذاتها مثلما فعلت بقيّة الأُمم النّاجحة سواء في الغرب أم في الشرق. نعم، فلنجرّب إصلاحَ مؤسّسات الدّول، والبناء على الواقع المدني البعيد عن الأدلجة والشعارات الكبرى؛ ذلك أنّه عندما يسود القانون على الكبير والصغير تنجح الدول وينصلح الفرد، ويتطوَّر المجتمع.

يُضاف إلى ما تقدّم، أنّه لا يُمكن أن تستوي مَطالب الإصلاح القيمي الذاتي الشخصي، بعيداً عن واقع الإصلاح المجتمعي الحقوقي ومناخه، لأنّ الإنسان لا يعيش منعزلاً لوحده، بل هو كائنٌ اجتماعي يولد ويقيم ويتطوّر في مجتمعات، ويُمارس وجوده ونشاطاته وعلاقاته وفعاليّاته المختلفة مُندمِجاً مع محيطه، بكلّ ما يتعلّق به من نُظمٍ وقوانين وغيرها.

وما يُساعد ويُسهم بقوّة في عمليّة الإصلاح الاجتماعي، هو وجود الرافد الديني، ولكنّه رافد لا يعمل على صورته المنشودة القويّة في بناء الفرد البشري السليم والمُعافى نفسيّاً وأخلاقيّاً من دون وجود مبادئ ومنظومة حقوق فاعلة وقائمة في بناء الدولة العادلة والقويّة والقادرة.

الحقوق تفوق الأحكام

بناءً على ما تقدّم، نعتقد أنّ الحقوق تفوق الأحكام في أهميّتها لناحية التطبيق، مع عدم تحجيم دَور هذه الأخيرة؛ إذ لا يُمكن أن تَطلب من إنسانٍ جائع ومحروم أن يتمثَّل فعلَ الأخلاق في ألّا يسرق، على الرّغم من أنّ الفعل (فعل السرقة) قبيحٌ بذاته. نتحدّث هنا عن تطبيقات فكرة الدولة.

وتحضرني هنا حادثة تاريخيّة مشهورة تقول إنّه في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، جاء عمرو بن العاص (عامل مصر) إلى الخليفة عُمر مُفتخِراً بتطبيق حدّ السرقة؛ فما كان من الخليفة إلّا أن قال له: “إنْ جاءني جائعٌ من مصر، قطعتُ يدك..”. بما يعني، أنّه عليكم (حكّاماً ومسؤولين ومؤسّساتٍ ونُخباً) أن توفّروا للنّاس حاجاتهم، وتمنحوهم حقوقهم، ثمّ تعمدوا إلى مُساءلتهم ومُحاسبتهم بعدالة ومسؤوليّة… وبما يعني أيضاً أهميّة الحقوق؛ ثمّ تأتي لاحقاً لوحدها موضوعة الأحكام والأخلاق والقيَم الفضائليّة.

والدليل على ما تقدّم، هو فشل مجتمعات تبنَّتْ النهج الإصلاحي الأخلاقي، فقط لأنّها ألغت من قاموسها نظام الحقوق: حقّ الحريّة وحقّ المُساءَلة وحقّ التنظيم السياسي والحقّ في الثروة وتطبيق العدالة وووإلخ. في حين أنّ نُظماً ودولاً أخرى (علمانيّة) تركت الأخلاق كدعوة عموميّة والتزمت بها كمسؤوليّات ذاتيّة خاصّة، ولكنّها نجحت في علاقاتها وسياساتها ومُجتمعاتها على صعيد بناء فردٍ سليم مُعافى صاحب حقوق وقويّ ومُقتدِر وناجح في حياته العمليّة. وقد أثمر هذا عندهم تشكيل وبناء بلدان مزدهرة ومجتمعات متطوِّرة علميّاً وإنسانيّاً وتنمويّاً. أمّا نحن – في اجتماعنا الديني الإسلامي – فإنّنا فقراء بمنظومة الحقوق العمليّة مع وجود كمٍّ هائل من المَفاهيم والنصوص الدينيّة الثريّة التي تؤكِّد عليها وتُطالب بها وبضرورة تقعيدها عمليّاً وليس نظريّاً فقط.

ما تقدّمَ لا يعني الفصلَ بين الجانب الأخلاقي والجانب الحقوقي، فهُما مكمِّلان لبعضهما بعضاً، بخاصّة في ظلّ عمليّة التحوّل المادّي الهائل الذي شهده العالَم المُعاصِر، والذي أفضى – في أحد تطبيقاته – إلى ضمور الجانب الأخلاقي الفردي والمجتمعي، بما لا يتناسب وحَجم التطوّر الكبير في المجالات الأخرى. وهذا يرتِّب مسؤوليّات في ضرورة التحرُّك بسرعة من أجل الإصلاح والتغيير، والذي لن يتحقّق من دون تحوّلٍ أخلاقي حقوقي أساسي في منظومة القيَم والسلوك يسهم في دعْم التحوّلات الأخرى (الاقتصاديّة، السياسيّة، التكنولوجيّة…إلخ)، ويَستوعب الاثار النفسيّة والاجتماعيّة السلبيّة التي ولَّدتها تلك التحوّلات، وبالتالي ردْم الفجوة بين التطوّر التكنولوجي والتخلُّف الأخلاقي.

***

(*) باحث وكاتب من سوريا

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *