“أين اللّحاف؟”

Views: 331

زياد كاج

 

   قد نتلفظ أحياناً بكلمات وعبارات في غير محلها وفي لحظات  ومواقف معينة فتأتي ردات الفعل عكسية وغير متوقعة من المتلقي. وسواء كانت الترددات إيجابية أو سلبية، نجد أنفسنا في موقف حرج يتطلب التوضيح وربما الاعتذار. هذه المواقف المحرجة تعلّمنا أن ندرس كلامنا جيداً قبل النطق بما يجول في عقولنا؛ لأن العقل هو حارس اللسان وليس العكس.   

   أذكر أنني كنت في ظهيرة يوم أقف مع صديقي ربيع قرب كنيسة الوردية في شارع الحمراء بعد انتهاء دوامنا في مجلة “مونداي مورنينغ” الناطقة باللغة الإنكليزية. كنا وسط دردشة سريعة عن أجواء المكتب. وصودف مرور شاب يعرفه صديقي. بدت عليه علامات الأناقة المصطنعة  ويحمل شنطة “السامسونيات” الجلدية التي يقتنيها عادة رجال الأعمال. بدا لي شاباً مسافراً على خطوط أجواء “الأحلام النهارية”.

 دخل ربيع في دردشة جانبية مع ضيفنا الهابط للتو. طال الحديث وأنا محتار بين البقاء أو متابعة مسيري الى المنزل. أحببت أن اشاركهما غبطة صدفة اللقاء، بعد أن عرّفني صديقي على الشاب . فبادرت بعفوية( ودون سابق تفكير) أنني قد  تعلمت اليوم في مكتب المجلة  عبارة تُستخدم في الكتابة الصحافية وهي من أصول ايطالية. ونحن كنا نقف في مكان ليس ببعيد عن  السفارة الايطالية (سابقاً). إلتفتا صوبي وأنا أنطق بعبارتي الذهبية من مناجم قاموس الكتابة الصحافية “الشخص غير المرغوب به في بلد ما” ( بيرسونا نن غراتا). 

 لطالما تفاخرت بسرعة تعلمي وحفظي للكلمات الجديدة باللغة الإنكليزية.  لكنني لاحظت أن لون وجه صديق ربيع قد تغير، واختفت ابتسامة رجال الأعمال عن وجهه الطامح الى الأعالي دون سهر الليالي . لم أشعر بخطأ ما تفوهت به.

   في اليوم التالي أخبرني صديقي ربيع في المكتب أن “صاحب حقيبة السامسونايت” قد انزعج مني كثيراً وأنه قد فهم أن ملاحظتي موجهة له مباشرة. فهمها كإهانة شخصية.

    موقف آخر محرج لكن مضحك للغاية لا تزال ذاكرتي تختزنه. كنت وشلة من الزملاء في مصعد مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. وفي تلك الفترة من أواسط الثمانينات، كانت العناصر الميليشياوية تسرح وتمرح في المستشفى وسط حرب أهلية وحروب شوارع. والأسوأ من كل ذلك، أن المستشفى كانت عرضة للكثير من أعمال السرقة من قبل بعض المرضى والجرحى وأهاليهم. ورغم تشدد الأمن والمراقبة، استمرت تختفي مقتنيات ومعدات وأدوية: مناشف، علب كلينس، مسكنات، معدات طبية.. وحتى الشراشف واللحف والوسادات.

   كنا كموظفين متعددي الانتماءات والمشارب. معظمنا لم يكن حزبياً، وعدد لا بأس به كان يجاهر بحزبيته وطائفته دون إحراج. كنت وشلة من الزملاء من أصحاب الجو الواحد نقصد الكافيتريا لتناول الغداء. وكان الأقرب الي زميل من الجنوب من بلدة  أنصار من آل لحاف لأنه من خلفية يسارية.

   في ذلك اليوم كان المصعد مقتظاً كالعادة. افتقدنا صديقنا  ابن لحاف.

فسأل أحدنا وهو صاحب صوت جهوري بيروتي:

“حدا شاف اللحاف؟ وين اللحاف؟”

“والله هيدا اللحاف إلنا..من عنا من البيت مش من المستشفى!”

 أخذت إمرأة خمسينية تحلف خائفة  وهي تحمل أغراضًا وأمتعة تخص مريضًا قريبها على وشك مغادرة المستشفى. اعتقدت المسكينة أن زميلنا الممرض يتهمها بسرقة اللحاف الأبيض بين أغراضها الخاصة.

 فشرحنا لها بعد نوبة ضحك هستيرية في المصعد أننا  نبحث عن  لحاف من صنف البشر وليش من القماش.

   كان صديقنا أبن أنصار شخصاً محباً مرغوباً به.           

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *