السوريالية في عيون المرايا…رغبة، حب، وحرية

Views: 694

وفيق غريزي

 

لقد بزغت السوريالية كحركة تفاؤلية تعبّر عن رغبة افرادها من شعراء وكتاب وفنانين تشكيليين، في المضي الى ما وراء الواقع الظاهري نفسه، والسعي الى تثوير الفكر من خلال طريقة فهم جديد للأدب والفن من خلال اتصال اكثر شعرية. هكذا، اذا كانت الدادائية تنزع الى الهدم، فان السوريالية هي استقصاء عن طاقة الخلق.

السوريالية هي اكثر من مجرد اتجاه فني، او قواعد لضبط الانتاج الفني، الفن ليس غاية بحد ذاته، ليس مجرد انتاج اثر، قصيدة او لوحة، بقدر ما هو تعبير عن موقف، والقيمة الاساسية للسوريالية تبدو في كونها اعادت ايلاج الخارق في الاحتمالات اليومية، وهي تعلمنا ان الواقع اذا بدا باهتا وفاترا جدا، فذلك لان الانسان لا يعرف كيف يرى، وان نظرته صارت محددة، ومحدودة بسبب الثقافة المصممة عمدا لتجعل منه شخصا اعمى. وكتاب “السوريالية في عيون المرايا” الذي ترجمه الى العربية امين صالح، يعطينا صورة عميقة عن السوريالية ومصادرها واعلامها.

 

اكتشاف وحدة الوجود

لم ينكر السورياليون ابدًا مبدأ التواصلية التاريخية، لم ينقطعوا عن الماضي بل وطدوا من جديد الاتصال بالماضي، لم يروا انفسهم او حاولوا ان يقدموا انفسهم كمحتلين لمساحة فارغة، بل على العكس تماما، كانوا يلحون المرة تلو الاخرى، على ان الغرائز التي منها تستمد السوريالية قوتها هي خالدة، وانهم يجدون المتعة والسعادة في لفت الانتباه الى البرهان والبينة الموجودة في فن وادب الماضي، والتي تدعم جدالهم مع الاخرين. وفي هذا الصدد يقول الموًلف: ” لقد التفت السورياليون الى الوراء لاسباب ذاتية، انانية، او على الاقل تعبيرا عن تمتعهم بالاكتفاء الذاتي، ان ثمة من كان يشاطرهم رؤاهم، ويشعر تجاههم بتجانس وتماثل في ما يتصل بالميول والاهواء والطموحات”. اي كانوا يبحثون عن اصداء لاسئلتهم الخاصة ويلتمسون الاجوبة التي تتفق مع تلك التي صادقوا عليها.

في الحقيقة السورياليون لم يلتمسوا تراثهم في الحركات الادبية الماضية بل في عدد من الشخصيات الادبية المستقلة، المتميزة، المرتبطة بذلك الماضي، هذه الاسماء،بالنسبة اليهم، كانت بمثابة الانوار الساطعة التي توضح رويتهم الجديدة للفنون. يرى المترجم امين صالح، ان السوريالين اكتشفوا ان الشعر الحديث يدين بكل شيء تقريبا، الى شارل بودلير، الذي اعتبره الشاعر المعجزة ارثور رامبو “الرائي الاول وملك الشعراء “فعل الكتابة، بالنسبة الى بودلير، هو فعل اكتشاف وحدة الوجود، فعل خلاص وتحرر.. هذا ما عثرعليه السورياليون في بودلير، وفي عالمه الذي لا يوجد بعيدا بل يكمن وراء نافذته مباشرة، على الحافة المتقلبة بين النوم والحلم، في موضع تحت الوعي حيث يصعب التمييز بين الرغبة والعمل، حيث للزمان والمكان علاقات غير تلك الكائنة في العالم الخارجي.

شارل بودلير

 

الاساس المعرفي للسوريالية

اهتم السورياليون منذ البداية، بالبحث عن اساس فلسفي لنظرياتهم او لرؤاهم في الشعر والفن، الفيلسوف العدمي فريدريك نيتشه، الذي ثبت انه كان رائجا جدا في فجر القرن الماضي، بدا لهم هداما وانانيا اكثر مما ينبغي في مفهومه للواقع. وكيركغارد لم يكن فعالا في اعطاء زخم لفكر جديد. يرى امين صالح:  “ان السورياليين كانوا يحتاجون برهانا داعما على حلمهم، امنيتهم بان شيئا اكثر دهاء من المنطق يمكن ان يوجد ليهب الحياة مغزى ودلالة اكمل، وان اهداف الفكر قد تملك واقعا اكثر مرونة. رغبتهم في تحويل عالمهم العبثي وغير المثير، لها باعث ميتافيزيقي على نحو عميق”. ان الغاية لوجودهم ولفنهم كانت التماس الاشباع الفيزيائي والميتافيزيقي يدفع تخوم الواقع المنطقي الى الوراء والكشف عن الاحتمالات اللامتناهية ضمن مدى العالم المادي المتماسك. هذه العملية كانت تقتضي ضمنا رابطة اقرب بين ذلك الذي يرى الشيء المرئي، المغامرة هي فعل خلق وتعبير عن حرية متقلبة من قبل الفنان. وحسب اعتقاد امين صالح، فقد كان السورياليون يكنون احتراما شديدا للفكر الالماني عموما، ويولون هذا الفكر ثقة عالية نظرا لانه وثيق الصلة بالحضارة المعاصرة اكثر من اي فكر اخر، وكانوا يؤكدون على ايمانهم بالنسل الثقافي الذي لم يقاطعه او يعترضه شيء، والممتد من هيغل الى انجلز. كان ذلك الارث موضع قبول واعتراف صريح في الوسط السوريالي. افكار هيغل كانت تشكل اهمية فايقة للسورياليين الذين استمدوا الكثير من الفكر الهيغلي، الذي افضى بهم الى ادراك نشوء وتطور الوجود المادي والفكري. ويشير صالح الى ان في بحث السورياليين عن اساس لايمانهم لا مجال العقل يمكن ان يتجاوز طاقاته المنطقية المقررة، فقد وجهوا انظارهم الى البحوث والاستقصاءات التي قام بهم العالم النفسي سيغموند فرويد في اللاوعي. ان التوكيد الاولي على الالية النفسية الخارقة للطبيعة، والحماسة ازاء ما يفشيه الحلم، في الكتابات السوريالية، وفرويد هو العامل الموثر المبكر.

فريدريك نيتشه

 

مصادر السوريالية

ان رؤيتنا الفطرية العالم ليست نهائية بل تعتمد على تأويل واحد فقط هو التأويل العقلي المنطقي، نحن عادة ننظر الى سطح الاشياء، ونترك المحسوس وحده والاشياء المادية، التي تتعرف اليها الحواس، تشكل العالم الخارجي. امّا الوقائع النفسية التي تنقلها المخيلة، مثلا، فتظل عناصر واقعية من الحياة الشخصية.

 هناك حياة روحية لا تدركها الحواس،والفنان الذي يؤمن بثنائية العالم هو الذي يكشف عن وجودها. يقول صالح: “لقد رفض السورياليون الواقعية التي تنظر الى الواقع من زاوية عابرة، ناقصة، وغير صافية. كما ناهضوا الواقعية الاشتراكية التي اعتبرها بروتون وسيلة استئصال اخلاقي. لقد اراد السورياليون تقديم رؤية للواقع بأعين جديدة ومندهشة، ساعين الى تجاوز التناقضات واكتشاف وحدة عاطفية بين عالمي الواقع وما فوق الواقع، ولا يتأتى ذلك الا باختراق قشور الواقع وبلوغ ما يعتبره الشاعر الفرنسي اراغون، علائق اخرى غير الواقع يلتقطها الفكر وهي مهمة، كالصدفة والوهم والغرابة والحلم، وهذه الانواع مجتمعة في نوع جذري واحد هو فوق واقعية. ولقد اعتمد السورياليون على مصادر عدة هي: الوعي واللاوعي، المخيلة، الحلم، الصدفة، الحدس، الهذيان، والجنون.

سيغموند فرويد

 

عناصر السوريالية

 ابرز عناصر السوريالية: الحرية والحب والرغبة. فالحرية هي الهدف والدافع الرئيسي للنشاط السوريالي، ولم تكن السوريالية بالنسبة الى السورياليين مذهبا جماليا، بل كانت تجسد امكانية تحرير الانسان من الاعراف الاجتماعية ومن نزعة العقلانية ومن جميع الضوابط التي يفرضها العالم النفعي. السوريالي يدعو الى التمرّد ضد الواقع، ضد قيود العادة والامتثال، ويدعو الى الاطاحة بكل القيم المسلم بها، فالحرية “هي غريزة عميقة في الانسان، تنزع الى تحطيم كل ما يشده الى العالم، والذي يتمثل في قوانين العايلة والمجتمع والدولة “. اما الحب فهو في حركة مستمرة، يؤكد صالح انه في حالة الحب لا يستقر الانسان بل تاخذه الحركة الى حيث لا يدري ولا يتوقع، الحب كما الحلم والخيال، احد مصادر الالهام الاساسية بالنسبة الى السورياليين الذين يرون في صعودا نحو المقدس والسامي،حيث تتاح للكائن الانساني تجربة التواصل مع الخالق: “الحب العظيم مدعو لتاليه الكائن الانسان”.

وبالنسبة الى بروتون الحب هو المبرر الحقيقي شبه الوحيد للحياة، تلك العلاقة التي تطلق الشرارة الخالدة، شرارة الدفء الانساني والتحول والاستمرار الخلاق.

لويس أراغون
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *