هاشم الأيوبي: أمير الفصول

Views: 508

د. جان توما

هكذا يخرج الأمير هاشم الأيوبيّ إلى الخريف، يجمع الأوراق الصفراء ويغزل منها حكايات للشتاء القادم مؤونة وكسرة خبز وقنديل سهر. يحكي في كتاب شعره الأخير تكايا عمره، وبعض ما فاته من سيرة ذاتيّة وسيرة غيريّة لوطن ما زال جرحه مفتوحًا منذ القرن الماضي من ماسأة 1948، وانكسار،1967 ونصر العبور، وتداعيات السلام المزعوم مع العدو الصهيوني.

سمّى هاشم الأيوبي كتابه قطاف الخريف ( طباعة دار البلاد، طرابلس، 2021، ولوحة الغلاف للفنان الدكتور فضل زيادة). لعلّ العنوان آتٍ مما صرفه الأيوبي من سني عمره، ” فقيه علم في اللغات والأدب، خاشعًا في محراب الأكاديميّا، متعمّقًا في أمور العربيّة، وساعيا إلى إنارة ما أمكنه من معارف بيئته وزمانه ومريديه” (من المقدّمة، وجيه فانوس ص8). هذا كلّه لا يخفي عراقته في النبل الإنسانيّ، العريق في أصالة عروبته، الصافي في رؤاه الإسلاميّة، المتمرّد على الفجيعة والانكسار، هو أيضًا صاحب الرؤية الحضاريّة المنفتحة على التوجّهات الثقافيّة الإنسانيّة”( فانوس، ص17).

يبدو واضحَا انحياز الأمير الأيوبي إلى الصورة الفنّية والتعبير البلاغيّ الإبلاغيّ، فهو يستبدل وبرضى تعبير ” الكوخ الفقير” بتعبير ” كوخ هجرته السعادة” (ص21)، يحدوه إلى ذلك ما ورثه من أذن موسيقيّة عن والده الذي كان يكشف البيت الشعريّ المكسور من وجع الكلمة المقولة على لسان أولاده (ص21)، فلا عجب أن ينشأ الأمير هاشم على تذوّق الأدب، وينال المراتب الأولى في كلّ مسابقة أدبية في مدارس طرابلس، وهو ابن بلدة النخلة في الكورة المجاورة التي كان ينزل منها صباحا ليعود مساء، إلّا في تلك الليلة التي حضر فيها أمسيّة شعريّة للشاعر القروي رشيد سليم الخوري في طرابلس حيث لم يعد يجد سيارة تنقله إلى بلدته، فسار إليها ليلاً وهي على بعد ساعتين  على الأقل.

ماذا دار في رأس ذلك الشاب في تلك الليلة وهو يطلع من الساحل إلى السهل؟ هل كان يفكّر في رحلة عمره؟ من بلدة متواضعة جمالها كما اسمها النخلة” إلى طرابلس ” البلد” كما كان يقال لها،  فكليّة التربية ببيروت بين سنتي 1965 و1970، فإلى بلدة بشري مدرّسًا، وإلى علاقات مع أعزّ الأصدقاء في تنورين، أعالي البترون، وفي كلّ هذه الأماكن كانت قصائده تضجّ في المجالس، ويحتفظ بها في دفتر ” فراح دفتر الأشعار عام 1976 في الحرب الأهليّة، في بيته الشماليّ، وراح دفتر الأشعار الآخر في بيته بالأونيسكو” (ص 32)، فاحتفظ بما بقي في الصدور، وما ضمّه من لقاءات مع أدونيس وخليل حاوي وأنطون غطّاس كرم، أنطوان سيف، وبول شاوول وموسى شعيب وأنور فطايري وغيرهم.

ودارت الأيام ليجد نفسه ” اوّل طالب لبنانيّ ترسله الجامعة اللبنانيّة بمنحة إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراة، ليعود بعدها إلى لبنان ليلتقي  بالأديب إلياس خوري، زميله في كلّية التربية، في مكاتب جريدة السفير،  فيقول له: “أخشى أن يربحوا فيك الأكاديميّ ويقتلوا فيك الشاعر”.(ص 34). لكن بعد عبور الفصول كلّها من ربح عند هاشم الأيوبي؟ من الصعب التمييز بين الشاعر والأكاديميّ ( لاحقًا تسلّم مهام عمادة معهد الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانيّة ، وحاليا، في موسم القطاف، يشغل مهام عمادة كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة الجنان)، فكما ” هواجس الحبّ وهموم الوطن والأمّة وجموح الأحلام وهي منابع ترفد الشعر بحيوية وسخاء وتنقر على أوتار القلب لينشد أغاني الفرح والحزن وبهاء الأحلام، كذلك فإنّ ما ينسجه جوّ العائلة من دفء المحبة وانصهار الذات والعمل على بناء أحلام جديدة ورؤى زاهية لا تقلّ رفدًا للشعر عمّا قبلها” (ص 34). قد تكون هذه التعابير وسادة هاشم السريّة، إذ هنا جمّع سبحة مضامين قد تشكّل الاسم الحركيّ للكتاب: “هواجس الحبّ وهموم الوطن”، و” جموح الأحلام”، و “أوتار القلب”، و”أغاني الفرح والحزن”، و” بهاء الأحلام”.

وزّع الأمير هاشم قوارير شعره في محاور تناولت:” قصائد الجامعة والزمن الجميل (1965- 1970) (ص39)، وجراحات مكابرة من لبنان (ص51)، وجراحات مكابرة من بغداد (ص83)، وجراحات مكابرة من فلسطين (ص93)، وجراحات مكابرة من الشام (ص103)، ومنابر الوفاء (ص113)، وواحات وجدانيّة (125)، ومكاشفات (149)، وفرح القوافي (ص157. لعلّه كلّما حاول حمل القوارير تهادت من بين يده واحدة لتنكسر، ولتفوح صورُا فنّية على الإيقاع الخليلي المتقن. لقد حرص الأمير هاشم على الصورة الفنّية التي يعمل دائمًا على إبرازها وتظهيرها، إيمانًا منه بأنّ اللعبة الإبداعيّة قائمة في هذه الصورة الشعريّة التي تشير إلى  قدرة الشاعر عامة على التعامل مع اللغة الحيّة، تعبيرًا وتصويرًا، سواء بواقعيّة الصورة أو إشارة إليها أو رمزًا.

يخرج هاشم الأيوبي من كتابه ململم الجراح مكابرًا. أتى من الجرح الكبير الذي بدأت مفاصله منذ حياته الجامعية التي تأثّرت بالتبدّلات السياسيّة والاجتماعيّة والمُتعبة ولكنها كانت من سمات الزمن الجميل. حمل الأمير الشاعر الجرح العربيّ المفتوح من لبنان وبغداد وفلسطين والشام . يبدو مكابرًا على جراحاته لأنّه ما زال مؤمنا بقدرة الأمّة على النهوض والثورة على الواقع بتغيير الذهنيات والعبور من الاستكانة إلى استنهاض الهمم لقيام الوطن.

هذا وراهن الأيوبي على الوفاء، وهي صفة يعتبرها من مكارم الأخلاق النادرة في عصر النكران والجحود وتبديل القيم أو سقوطها، لذا ركّز في نهاية موسم القطاف، في الكتاب، إلى الواحات الوجدانيّة، أي إلى البدايات العفويّة الطبيعيّة، بتركيز على دور الأسرة التي، بشبابها وبناتها، لفرح القوافي كي تتراقص طربًا بتلك الإنسانيّة التي مارسها هاشم الأيوبيّ في علاقته انفتاحًا ومحاورة ومواقف حمّلها لأوزان شعريّة لتكون ذخيرة مضمّخة بعطر الخبرات المتراكمة في التربية والسياسة والاجتماع، وبذاك التبادل الإنسانيّ الفاهم والمتفهّم والمستنير، وهو القائل: أكونُ نارًا إذا ما كنتَ لي مَطرًا/ أو كنتَ نارًا، فإنّي ذلك المطرُ (ص100).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *