هادي زكّاك: في البدء كان “العرض الأخير”

Views: 195

د.جان توما

كلّما تناولت كتاب “العرض الأخير، سيرة سيلَما طرابلس” لأقرأه، أتهيّب الموقف، فالكاتب المخرج السينمائي هادي زكّاك يدوّن بحنين سيرة حياة كلّ طرابلسي عاش أيام الشاشة الفضيّة في زمن طرابلس الثقافيّ الذهبيّ. هذا الكتاب التأريخي للسيلَما، باللهجة الطرابلسيّة، أيّ السينما، صدر بدعم من الصندوق العربيّ للثقافة والفنون( آفاق)، جمعية بيروت دي سي، مركز محمود الأدهمي الثقافيّ للتوثيق والأبحاث والمعلومات، طرابلس، ومعهد الدراسات المسرحيّة والسمعيّة المرئيّة والسينمائية، جامعة القديس يوسف، بيروت. (2021).

يعود هذا التهيّب عندي، لضمان المؤثّرات التي يجب أن تتحقّق لحضور فيلم سيلَما، من: إطفاء أنوار، وكرسي مريح مع رفع قدميك على الكرسي أمامك، إضافة إلى كيس بزر صغير أو آخر من عبيد مملّح، ما يعني أنّه عليك قبل أن تقرأ الكتاب الأرشفيّ أن تقوم ببعض الطقوس التي كانت في ذلك الوقت، إلّا أنَّ غلاف الكتاب نجح للمتأمل في تقنيته وإبداعه في تأمين العتمة، بسبب اللون الأسود الطاغي، والكرسي المستحضرة أمّنت الجلوس المريح لبدء ” العرض الأخير”، فجلسنا واشتغلت آلة العرض.

واضح أن الكتاب جاء أرشفة متقنة لدور السينما في طرابلس والميناء وأثرها في تنمية المجتمع المحلّيّ، وفي توسيع مروحة أهمية الفنّ السابع، ما يشير إلى أنّ الكتاب ” ليس مجرد تاريخ للسينما بقدر ما هو تسجيل للذاكرة المدينيّة، وارتباط هذا الظهور مع مراحل تطوّر مدينة بمسيرتها السياسيّة والاجتماعيّة وتحوّلاتها عل مختلف الصعد”( مايز الأدهمي من المقدمة ص 7). من هنا البدايات، حيث يجلسك هادي زكّاك على كرسي في مقهى، متابعًا رواية الحكواتي في” عالم يمتزج فيه التاريخ بالأساطير”(ص19)،  ليعود فيطفىء الأضواء، ” لتتمّ إنارة شاشة بيضاء من الخلف بواسطة شموع ،أو قنديل، مع حكاية بطل خيال الظلّ”(ص20)، ليجلسك مجدّدًا على مقعد خشبي أمام صندوق الفرجة حيث ” الصور تتعاقب وتنقلك إلى عالم خارج أسوار المدينة”(ص21).

ينطلق الكاتب من بدايات المسرح الطرابلسيّ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ثمّ بدايات السينما التي قامت أوّلا في إهدن “حيث كان يجري عرض لما كان يسمّ بالمناظر” (ص23)،  إلى أن تمكّن “توفيق نوفل” من إحضار آلة للسينماتوغراف إلى المسرح الجديد الملاصق لقهوة ” كوكب الشرق” عام 1908″(ص 23). إنَّ انتشار العرض السينمائيّ ” في بعض المقاهي من الأسواق الداخلية أدّى إلى انخراط  السينما في الأوساط الشعبيّة التي سمّتها باللهجة العامّية سيلَما”(ص24). توزّعت دور السينما لاحقًا على ساحة التل والجوار، وفق لائحة الكاتب الاحصائيّة للتاريخ كالآتي:” كابيتول، كولورادو، أمبير، أوبرا، بالاس، ريفولي، روكسي، أوديون، رومانس، أمير، دنيا، حمرا، ليدو، ركس، الشرق، ديانا، كواكب، نجمة، الأهرام، الأندلس، بيكاديللي، ستاركو، وفي مدينة الميناء: العلم، كليوباترا، هوليوود، رابحة، راديو، سلوى، فيكتوريا، ليتّضح بجسب بيان صادر عن الأمن العام في 8 آذار 1963، أن عدد دور السينما في طرابلس يبلغ 31 دارًا”.(ص28).

يسرد الكاتب كوكبة كبيرة من الأسماء التي ساهمت في الحركتين المسرحيّة والسينمائية في المدينة، جامعًا عشرات الملصقات في تركيز واضح على علاقة كلّ هذه المؤثّرات بالمحيط المدينيّ، وتأثير ذلك على حياة الناس في طرابلس ونمطها، وفق الأنواع الفنّية للأفلام الواردة إلى  الشاشة من رومانسيّة، أو ميلودراما، أو الكوميديا، أو الويسترن، العالميّة منها أو العربيّة ثم اللبنانيّة. عمل هادي زكّاك على كلّ دار، فحكى قصتها على لسان أصحابها، أو من تبقّى منهم، أو توارث الحكايات، مستعرضًا الحياة السينمائيّة التي وردت إلى هذه الدور، وكيف تضاءل حضورها بسبب التحوّلات والتناقضات لتصير الدور” من معالم المدينة تسجّل الذاكرة وسط النسيان”(ص57).

تركيزًا على أذواق المشاهدين يعرض هادي زكّاك عيّنة لمدينة الميناء البحريّة حيث تدور على الدور نوعية أفلام تناسب الذوق الجماهيريّ العام، من ستالين( بسبب البيئة المحلّية اليساريّة)، إلى بروس لي، فطرزان وأرسين لوبين، والأفلام المصريّة، والبطل الملاكم الإسطوري سانتو، وهرقل، ومجموعة الأفلام الهنديّة التي تستدر الدمع مدرارًا، والرحابنة لاحقًا.( الفصل الخامس235- 288).

هذه العيّنة تبرز بوضوح أهمية دور السينما في التنفيس عن الكوامن عند البحّارة الذين كانوا دائمًا على موعد مع البحر ومصاعبه، ومع الرزق ومتاعبه، فجاءت ” السيلَما” لتعبّر وتعوّض عما فاتهم من مكامن الفرح في هذا العالم الذي يبدو لهم عاصفًا برياح هوجاء وأمواج متلاطمة مع الساحل المضطربة صخوره.

يعجّ الكتاب بالمقابلات الحيّة مع معاصري الحركة السينمائيّة والفنون في المدينة. لم يترك الكاتب مصدرًا إلّا وقصده ليسجّل البدايات، فأتى الكتاب الورقيّ حيًّا بمقابلاته، وتحليل الأحاديث والاستنتاج المقصود، خدمة للنصّ الروائيّ السينمائيّ ( الفهرس ص599). كأنّ المخرج هنا حرص على مشهديّة النصوص في توليف إخراجي قادر على أن يسجّله تقنيًّا وفق توارد الصور المتعاقبة في الغرفة السوداء لتظهير الفيلم الملوّن، بما مضى، وبما اندثر، وقد غابت كلّ دور السينما عن طرابلس، وتحوّلت إلى مخازن أو أبنية، وراحت ثقافة الأفلام، وخسرت طرابلس شاشتها الفضيّة التي كانت توحي وتثقّف وتعلّم وتسهم في النهضة الفكريّة.

ماذا بقي من “السلَيما” في طرابلس؟ غير مهرجان طرابلس للأفلام الذي يقيمه إلياس خلاط، الناشط من أجل طرابلس الحيّة، تأكيدًا على تطوّر العلاقة بين السينما والمدينة من خلال عرض الأفلام المحلّية العربيّة والدوليّة من كافة الأنواع ( أفلام روائيّة ووثائقيّة وأنيميسشن) (ص595)، في مبادرة تتكامل مع من يعمل على حماية إرث طرابلس وتاريخها، وإعادة تفعيل دورها الحضاريّ على الخريطة المحلّية والعالميّة، مع  المبادرات التي سبقت من نادي السينما مع رياض بيضون وسعيد الولي وجان رطل وغيرهم إلى مؤسسة الصفدي سابقًا، وحاليا مع الرابطة الثقافيّة ومركز العزم الثقافيّ ورابطة الجامعيين.

يواكب الكتاب تاريخ الفنّ السابع في طرابلس، في استعادة الروح قبل أن يخلّف رحيل “السلَيما” “عنها إرثًا كبيرًا من الصور والأصوات” ( من الغلاف الأخير) …. والذكريات.

***

(*) الكتاب متوافر في مكتبة دار الفرات

Dar el Furat, Bekhazi Building, Abla Street, Ras Beirut, Tel: +961 1 750554

وعبر المواقع التالية:

https://www.alfurat.com/books/185630

https://www.buylebanese.com/browse.asp?pr=1270

(expertseoinfo.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *