قراءة نقدية في ديوان “أوراق متناثرة على ضفاف قلب”

Views: 900

أنطوان يزبك

يقول الشاعر شوقي بزيع في قصيدة “خلف دموع الشتاءات”:

خالياً كان قلبي من كلّ شيىء

سوى رغبةٍ لا تفسّر

في فكّ لغز النساء المحيّر

هكذا هو الدخول الى فضاءات مزدانة بخفر صبية حالمة، تحدو بها رغبةٌ ملحة في الطيران مثلُ جوناتان ليفنغستون طائر النورس بينما عطور العشّاق وعيونهم المسهدة تعبق مصعّدة في أرجاء ديوان “أوراق متناثرة على ضفاف قلب”، حيث يلج الباحث مستكشفاً عالماً من الملغزّات والأحاجي التي نسجتها آمنة لكي  تبوح بما يحمله الصدر المكلَّم بالآهات، تاركةً لذوي الألباب وعشاق الكلمات المكنونة في طيّات كتاب ، مغامرة الاكتناه والاكتشاف .

أجل انه عالم لامتناهي من البوح والتعبير ، يصل الى حدّ الرواية المرمّزة بلغة الشعر. هذا الديوان هو في حقيقة الأمر ، صورة نابضة بالحياة ،تنهدات مفعمة بالشغف والاقدام، قصة آمنة الوردة المتفتحة في حياض حديقة غنّاء ، متّحدةً كلياً مع تجليات الطبيعة والوجود،  قصةُ ٳمرأة رقيقة حساسة جداً يانعة كما زهرة الصقيع ” ايدلفايس ”  التي تنبت على شواهق الثلوج في أعالي جبال النمسا  والتي تصمد على الرغم من اشتداد الرياح والعواصف العاتية . قصّة امرأة آلت على نفسها أن تستبعد من حياتها كل ما هو قبيح وتحول يومياتها الى شعر وموسيقى وطبيعة وأحلام وكأن الوجود برمته رقصة فالس .

أجل ، لقد أتّقنت آمنة فن تحويل روحها  السادرة الى اثير يتداخل مع الطبيعة والموسيقى وهي تذكر في الصفحة 166 معزوفة  vivaldi فيفالدي ولا شك في أنها تقصد معزوفة الفصول الأربعة الى جانب بيتهوفن وموزار وكلّ هؤلاء ٳحتفلوا بالطبيعة لا بل عشقوها مجسدين في موسيقاهم الخالدة رؤيتهم للترسل والتكافل بين عناصر الوجود والانسان في تجليات أحاسيسه. 

اللافت أيضاً في هذا الديوان تناول الشاعرة التفاصيل الدقيقة وكأنها تقول للقارىء ما قاله ذات يوم جوزيه ساراماغو: ” أرجو أن تعذرني لو أنّ ما يبدو لك تافهًا ، هو كلّ شيء بالنسبة لي ” .

هكذا هي آمنة ، توظّف المشاعر الخارقة للٳحساس والعواطف الأكثر عتوّة في كلِّ شيء ، فبالنسبة لها ثمة حاجة الى الٳعتراف ، خاصة عندما تستحضر كل ما يدور في دنياها من صور الطفولة الى تلك التي تتناول معاني الحياة والوجود وكأنها تريد الٳحتفاظ الى الأبد بمن تحب : أهلها لكيما يسكنوا حتى يوم الحشر في ثنايا الكتاب ، الأب ،الأم ، سميّة والرجل المتعدد في الزمان والمكان والذي تحاول التحرّي عنه فتصل الى مجموعة خيوط متشابكة حيناً ومتفرّدة حيناً آخر ليصبح هذا الرجل مجموعة شخصيات  تشكّل رباعية من خصب ورؤى وتحولات وشحنات من ألم وشجن حتى لا نقول عذاب تحاربه آمنة بواسطة الأحبة، صمام الأمان ،بهم تتحدّى الذكريات الموجعة وتتحفّز لملاقاة الوجود بكلّ تناقضاته وقساوته وظلامه المهيمن الساجي الدامس والمريب.

أما عن جرعات الحب في هذا الديوان فهي كثيرةٌ لا بل صادمة لشدة غزارتها حيث تنبع من شحنات عاطفيّة تصف حبيباً تعمد الحبيبة الى تبديل قيافته وشكله وحتى هويته هرباً من فضيحة الكلمات و خيانة العبرات فينسل هاربا من بين الأصابع هارعا الى حيث تستولده نساء أخريات في قصائدهنّ ومخادعهن وجلساتهن وفي صباحاتهن مع فنجان القهوة المعطر بالهال لا فرق طالما الخسارة واقعة مع التي اعتادت الخسارة والمنافسة في كل شيء ، في معارك غير متكآفئة وجولات  متناحرة لا هدف منهاسوى عدم سوريالي وفيضٍ من اللامعقول.

هذا الرجل الذي نبحث عنه ،أهو صديق فحسب ،أم رؤية متخيّلة؟ كما في قصيدة كن صديقي صفحة 22 حيث نحار من يكون هذا الصديق ، أبّ، أخ، أم قريب أم هو هرمس الميثولوجيا ٳذ تقول في الصفحة 23 :

كنّ شجاعتي

ودهشتي

كنّ حامل المحبة وفرحتي

لأنتظر منك

في كلّ يوم هديتي.

تستمر ٳشكاليّة العلاقة حول الحبّ المممنوع والكنز المرصود ، ففي قصيدة “تحرر من قيدي “صفحة 58  تطالعنا قصيدة عالية القيمة ذات قوّة منقطعة النظير نقرأ فيها :

ٳنطلق ، تحرر من قيدي

ٳن كان من فولاذ او من حديد

حطّمه .. ٳنتقم من صديّ

وابتعد عن العذاب والتنهيد .

أهذا حبٌ مستحيل لأننا نخال آمنة توزع عاطفتها على طيف رجل تخشى أن ترسم ملامحه بازميل الشغف ،بيد أنها تختار أن تطلق سراحه لعزة في نفسها أو لظنها أنه معها سيكابد الشقاء وكأنها تستعيد قصيدة نزار قبّاني الى مراهقة حين يقول:

” ٳذهبي … ٳذهبي … كسرت سلاحي

ضاع منّي فمي فماذا أجيب  ؟

في صدر الشاعرة تتنازع عدة حيوات تثور كما البراكين الملتهبة تحيل التمرد الى انزياحات وعدو سريع في بيداء اللامكان . مشاعر تتلون  أحياناً بعناصر تدهش وتصدم ،وأحياناً أخرى تتمكن من تسجيل اللحظة ،في عداد التاريخ ففي الصفحة 60 يأتي النصّ بعيداً عن الغموض ولكن تتعدد مرجعيته : ” أتوق الى مكانٍ

ليس لبشريّ فيه صدى..

ليس فيه سوى خرير ساقية

توشوش الحصى..

في هذا الشعر تجليّ الطبيعة السحرية ،  ٳتحاد بين الفنتازيّ والرمزيّ ، الشعور واللاشعور ، مماحكة بين الحريّة والمادة ، دعوةٌ لخلع القناع كما في كلّ القصائد على الجملة ،حيث الطبيعة تنتحل الجسد من أجل تحريره وانطلاقه في مغامرة الحبّ الذي نقرأه بتأنٍ في معظم القصائد ، وكأننا نجده يتبع دروباً وعرة وشائكة. في كلّ مفصل تشي الكلمات بمدى رهافة مشاعر آمنة ٳذ تبدو لي وكأنها تستحضر غناء السيدة ماجدة الرومي لقصيدة “أنا شعوب من العشاق” للشاعر أنسي الحاج في رحلة البحث عن المعشوق الآخر ، الرقم الصعب في معادلة  مجتمع زائف يقتل كل زهرة حب لم تتفتح بعد ففي قصيدة ” لو أننا ” صفحة 88 نقرأ :

لو أننا

لم نلتقِ أبداً حتى نفترق

لو أننا عرفنا أنّ الهوى عبودية للقلب

حتى طقوس حريته نعتنق

لو أننا تعلّمنا شريعة النسيان

عسانا نحطم ذاكرة الألم وننطلق. 

في هذه الكلمات دعوة صارخة الى التمرد وكسر القيود ،التي يرسف فيها كل من تاق الى الحب من ذكور وٳناث في مجتمعات خانقة لا تولّد سوى الخيبات والأفق المقفل كما القبور التي تحدث عنها البير كامو.

في قصيدة موعدنا صفحة 90 91 92 نقرأ :

وفي رحلتي…تكبر المسافات

وتهتدي الأمواج الى الشطآن

فأجد الطريق…

ولكن …

لا أجدك … أيها الصديق..

ومن الكلام المباشر الصريح الحقيقي ما نقرأه في قصيدة “لست قلبي” في صفحة 93 94 :

سأنزع قلبي عن جسدي

لأنسى هواه ولن أذكره…

سأحرق القلب المسكين

الأبيض كالياسمين

حتى يصبح رماداً

كي ، في الهواء ، أبعثره.

في شرقنا التعيس تصل الٳنغلاقات بالانسان الى اقتراف المحظور الى التدمير الذاتي من شدة المعاناة ، وربّ قائل : هل يستحق المعشوق الآخر كل هذا الرقص فوق الجمر؟ وأقول نيابةً عن آمنة : أجل وأكثر : 

تفقد كائناً واحداً وكل شيء من حولك يتصحّر…

Un seul être vous manque et tout est dépeuplé.

ألفونس دولامارتين.

فالذي يفقد حبيباً يعاني ألم المدفون حياً ، وعلى ما يبدو فقد عانت  آمنة هذا الفقدان لذلك آلت على نفسها أن لا تترك شيئاً في الخفاء لا بل تفتح كل خزائن القلب والذاكرة والٳحساس وتعرّي مخاوفها وأحزانها، كما تتماهى مع ابيها وأمها وأختها والله والوجود والكون والطبيعة ،وصولًا الى اعتلان شجاعتها من خلال صرخة تضمّها الى صرخة الٳمام عليّ ( رضوان الله عليه) حين تقول في الصفحة 26

فلو كان الفقر رجلاً لقطعته أسنان.

هكذا تتمازج في رؤى آمنة ،مع مشاعرها أسمى المقدّسات وأبهى القيم الحرّة التي تزين جبين الشعوب المقاومة، ٳضافةً الى الٳعترافات الشفيفة والبيضاء الناصعة كالثلج ، هذا الثلج الغالي كثيراً غلى قلب آمنة ، فها هي تود في كلّ حين أن تلتحف بنقاوته الى يوم القيامة وتتنقى بطهره من لوثات هذا الوجود وتنتعش به من عطش العاطفة وضحالة المشاعر الصادقة النادرة ، وتقول مع أنسي الحاج بكلمات من ضياءٍ ونور:

“أرجوك أن تغفري لي هذه الثرثرة

عذري الوحيد أنني صادق وممزق وأرتاح اليك”.

آمنة أنت صادقة الى ما بعد حدود السماء هذا اذا كان لها من حدود، ولكنك لست ممزقة ،لأنك تحملين في صدرك آمنتان: الأولى والدة رسول الأنام النبي العربي محمد بن عبدالله والثانية بطلة من البطلات النادرات آمنة الصدر أم الهدى التي مزق رصاص الحقد جسدها الرهيف فنالت أثمن شهادة ، لروحها الخلود الى جوار الأنبياء والأئمة والشهداء الصالحين.

ولك آمنة أصدق المودات ، ونسكت في هذه العجالة عن الكلام المباح حيث هناك الكثير الكثير في الصدور ينتظر الخروج الى النور من حنايا القلوب بين تضاعيف القصائد.

آب 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *