البلاغةُ في الكتابة

Views: 1168

الدكتور جورج شبلي

 

البلاغةُ لَحنٌ شَرقِيٌّ يُذاقُ بِطولِ السَّمع، كما النّشوةُ التي تتبَدّى فوقَ المُحَيّا، كلّما لَفَحَتِ النّفسَ نَسائمُ الهوى. والكتابةُ بِلا البلاغة، عِزٌّ مفقود، ودوّامةٌ خاضعةٌ للجاذبيّة، وهي، مع البلاغةِ، زهرٌ مُمتَنِعُ القَطفِ على الّذين لم تَينَعْ، في أَكُفِّهم، رِقَّةُ الطَّلَب. وكما أنّ في كُلِّ جَدوَلٍ أُغنيةً تَجري مع الماء، كذلك، تُلَبّي الكتابةُ، مع البلاغة، الدّعوةَ الى سَفَرٍ بين القِمَم، ليُعرَفَ كيف يكونُ شُغلُ القلب، وكيف تُذيبُ الوَجناتِ القُبَل.

الكتابةُ بِلا بلاغة، تَبينُ فيها الصُّفرةُ، وتتراجعُ أصداءُ الجَمال، لتُطبِقَ عليها الأَقفالُ الصَّفيقةُ، وتحولَ دونَ فتحِ أبوابِها على ضِياءِ الشّمس. مع البلاغة، تَستكملُ أعجوبةُ الكتابةِ قوامَها، وتشتعلُ شرارةُ الإبداع، ويكونُ للجَمالِ حَظوَةٌ، واستِئثارٌ بالدَّهشة، من هنا، ليسَ مُزايِداً القَولُ بأنّ البلاغةَ انتقلَت بالكتابةِ من الخِرَقِ الى المَراجِع. 

لقد صانَتِ البلاغةُ كرامةَ الكتابة، فلم تَعُدْ في المَقامِ الثّانويّ، وصارَت أَقربَ الى الصَّرخةِ منها الى الكلمة، حتى أنّ صَمتَها باتَ يُسمَع. والبلاغةُ هي انصهارُ العِشقِ في دَمِ الكتابة، وحِبرٌ مُتَمَرِّدٌ ضَخَّ عُصارتَهُ في أراجيحِ الإبتكارِ لتُفصِحَ عن أواصرِ القُربى بين الكلمةِ وإِيواناتِ الإبداع. عندما تدخَّلتِ البلاغةُ في الكتابة، لم يكنْ ذلكَ خلعةً مجّانيّة، بِقَدرِ ما كان ردَّةً على ما عانَتهُ البلاغةُ من وَخزِ إِبَرِ القَلَقِ على الكتابةِ التي لم تتجاوزْ حَواضِرَ البيت، فكان لا بُدَّ من إِحداثِ ضجَّةٍ سحريّةٍ واعِدَةٍ تنقلُ الكتابةَ من العاديّةِ الى اللّامألوفِ الطليعيّ. 

لقد ضمَّخَتِ البلاغةُ جسدَ الكتابةِ بِطيبِ حسِّها، وسلَّمَتها جَوازَ عُبورٍ الى مغازلةٍ حميمةٍ لِنَسلِ الجَمال، وهو سِرٌّ مقدَّسٌ أَعتقَها مِمّا كان مُقَدَّراً لها أن تَلتَفِتَ الى الوراءِ لتُمسِيَ عَمودَ مِلح. وعندما اطمأنَّتِ الكتابةُ للبلاغة، وبَزَغَت قوّةُ الشَّغَفِ بها، واستَظَلَّت بفَنائِها، زادَتِ الكتابةُ جاهاً، ولم يَعُدِ الخوفُ يفتكُ بأحلامِها. فالبلاغةُ أحدثَت علاقةَ تَقاطُعٍ بين الكتابةِ وبين الخُلود، فباتَ الكَسادُ والبَوارُ مَكسورَي الخاطِرِ في مَسارِها.

لقد بلغَتِ الكتابةُ، بفِعلِ الإلتزامِ بتَوصياتِ البلاغة، أَنزَهَ المنازلِ التي تُقصَدُ لإِرواءِ نَهَمِ الإستمتاعِ بالجَمال، وبِذا، تَمَتَّنَت عمامتُها. والبلاغةُ هي سِكرُ الكتابة، والإحوِرارُ في طَرفِها، وتَسَلُّلُها، على غَفلةٍ، خارجَ الإعتِياديِّ والمَألوف. وهي التي تمنحُ الكتابةَ نَضارتَها، ولا تُسَلِّمُ خَدَّها إلّا للإبداعِ، فالإختلاطُ بهِ أَطيَبُ وأَنفَعُ، لأنه يُرَجِّحُ الكَفَّةَ لِصالِحِ القيمة.

عندما تَناسَلَت بِذرةُ البلاغةِ في الكتابة، ووشَّتها بفنونِ الجَمال، اهتزَّ فيها نَسيجُ الإبداعِ، وتناسَخَ فيها التَّشويق. ولمّا كان الإبداعُ لا يَهرمُ ولا يَشيب، كان ذلك همزةَ وَصلٍ بين الكتابةِ ورَيعانِها، فلم تَعُدْ شرايينُها تَصطَكُّ عُرْياً، وتَصافَت مع معدنِ الجَمالِ يَصبغُها فتَزهو كأنّما ظفرَت بِمُلكِ الدّنيا. والجَمالُ، في أدائِهِ البلاغيِّ، حِليةٌ لا تُسَلِّمُ لَغزَها إلّا لابتكارِ المُدهِش، يُنبوعِ نقاءِ الخَيال، حيثُ التَّوقُ الى الشَيِّقِ الخَلّابِ الذي ينطقُ باسمِ خزائنِ الجَمالِ، ليَضحى حَرامُ الإبداعِ مُحَلَّلاً. 

القَولُ بأنّ البلاغةَ عِبادةٌ للأصنام، بمعنى أنّها تُقَلِّمُ أَظفارَ الفكرةِ لِصالِحِ الصّورة، أو تنزعُ ثيابَ المعاني لتَخيطَ بها التَّماثيل، أو تَتوقُ لرِعايةِ التِّقنيّةِ من دونِ الدَلِّ على جواهرِ الكَلِم، أو تسعى الى اشتقاقاتٍ صعبةٍ تُرهِقُ الذِّهن، هو تَمويهٌ يأتيهِ مَنِ اسوَدَّت وُجوهُهم مِمَّن لم يَحظَوا بمكانٍ في مَصَبِّ البلاغةِ، والأنسِ بها. فالبلاغةُ لا تَهِبُ حُلِيَّها للعُمْيِ والبُكم، فهؤلاءِ كلامُهم عِظامٌ وجُلود، لكنَّها ترتاحُ لِصُنّاعِ العواصف، فهناك، تَسكنُ الصَّواري التي تبسطُ سلطانَها فوقَ سُفَرِ الرّيح، فبينَها وبينَه انطلاقٌ الى التَخَطّي.

لم تتقشَّفِ الكتابةُ في حُبِّها للبلاغة، وتَمَّت بينهما إِلفةٌ هي أَقرَبُ الى النَّسَب، وكانت مُقابلَتُهما كأنّها مُقابلةُ عِناق. ولمّا كان، بين البلاغةِ والكتابةِ، تَهَيُّمٌ من قَبيلِ الشَّغَف، صارَتِ البلاغةُ قَيِّمَةً بمصالحِ مملكةِ الكتابة، فضربَت صخرَها بِعًصاها، لتَتَفجَّرَ تكويناتٌ إبداعيّةٌ مودَعَةٌ فيه، بكلِّ فُصولِها، سارَت في عُقَدِ الزَّمَنِ، فحفِظَتها الأيّامُ ومُتِّعَت بها، لِما هو حاصلٌ في صَحنِ دارِها من مَكامِنِ الجَمال. 

إنّ اعتِصامَ الكتابةِ بالبلاغةِ عائدٌ الى أنّه، بالبلاغةِ وحدَها، طُرِحَت بضاعَتُها في أسواقِ الذَّخائر. وبالرَّغمِ من  أنّ كثيرينَ اعتبروا البلاغةَ من أَعتى المعضلاتِ التي كان التّدبيجُ يرزحُ تحتَ صُدوعِها، غيرَ أنّ المُتَحَمِّسين إليها، والمَفتونينَ بها، والذين أَعمَلَت فيهم قوَّةَ الأَسر، لم يُغالوا حين اعتبروا أنّ البلاغةَ ليسَت إِضراماً في هَشيمِ الكلام، إنّما هي قَدحٌ لِشَرَرِ الجَمالِ الذي فيه، وفي هذا، قوَّةُ تأثيرِهِ، وتَوَقُّدُ إِدهاشِه.

عندما أَعلَنَ البعضُ، من غَيرِ المُستَطعِمين، الأحكامَ العِرفيّةَ على البلاغة، وانتهت حالُ الكتابةِ معها بِشِقاق، مرَّتِ الكتابةُ في أَزمنةِ ذَلول، فما بقيَ الإبداعُ أداةً تُعرِبُ عَمّا تُصَوَّرُ به محاسنُ الوجود. لكنّ المُتَنَوِّرينَ الذين امتنعَت عَينُهم عن الغَمضِ في قضيّةِ البلاغة، نالوا من مِبضَعِ التَّنكيلِ بها، والجَفوَة، وكأنّها لا تُنسَبُ الى فَنِّ الكتابة، وأحاطوها بالإنصاف، وأَرجَعوا لها حُضورَها الطَّليعيَّ في الحسِّ والذَّوق، فعادَت لِروحِ الكتابةِ روحاً، وآهاتٍ صُرِخَت على الوَرَق، فما أَروَعَ أن يُطَعَّمَ بالذَّهَبِ قَضيبُ الفضَّة. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *