جاك دريدا… “الولد الشقي” في الفكر الفرنسي المعاصر

Views: 502

وفيق غريزي

 

يشكل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حالة فريدة متميزة بين المفكرين البنائين الفرنسيين المعاصرين. حقق شهرته الواسعة في سنوات قليلة نسبيا وباعمال هي في معظمها مقالات او مقابلات تدور في الاغلب حول كتابات واراء غيره من المفكرين والفلاسفة والادباء، وذلك الى جانب ثلاثة او اربعة كتب ظهرت له عالج فيها بعض الموضوعات الفريدة الشائقة كما هو الشان في كتابه حول البطاقات المصورة.

جاك دريدا هو الوحيد بين المفكرين البنيويين الذين تعرّض بالنقد والتحليل واحيانا بالتجريح لكتابات زملائه. فلم يسلم من نقده الأربعة الكبار الاخرون وهم: جاك لاكان، ميشيل فوكو، رولان بارت، بل وزعيمهم وكبيرهم جميعا كلود ليفي شتراوس، فهو بذلك يمثل اتجاها جديدا ومهما داخل المدرسة البنائية، كم اصبح يطلق عليه اسم “ما بعد البنائية”، كما اصبح يمثل “الولد الشقي” في الفكر الفرنسي المعاصر. 

جاك دريدا

 

دريدا والفكر العربي المعاصر 

ثمة سؤال يجابهنا: كيف تعامل الفكر العربي والمفكرون العرب مع تيارات الفكر المعاصر، ومنها فًلسفة الاختلاف ومنهج التفكيك لدى جاك دريدا الذي امتلأت بكتاباته ساحة الفكر العربي، وانشغلت الثقافة العربية في نقل معالم هذه التيارات المختلفة، وكتابات اعلامها، والكشف عن نصوصها المعروفة والمجهولة، ونقد بعضها لبعض، وتطبيق ادواتها ومناهجها على مجالات ومراحل وبدايات الفكر العربي. معد الكتاب “جاك دريدا والتفكيك” الدكتور احمد عبد الحليم عطية، يشير الى أن الثقافة العربية عرفت جاك دريدا، وتم ترجمة عدد من نصوصه ووضعت الكثير من الدراسات حوله وشرح عليه للتعريف بفلسفته وتطبيق منهجه، سواء في الفلسفة أو النقد الادبي أو السوسيولوجي. وقد نهضت بهذا الجهد اسماء لامعة من الباحثين واساتذة الجامعات والمفكرين العرب من اقطار عربية عدة، بحيث يمكننا القول ان صاحب هوامش الفلسفة قد اصبح جزءًا من متن النص الفلسفي العربي المعاصر، وانتقلت فلسفته من الغياب الى الحضور وتحوّلت افكاره من المسكوت عنه الى المعلن عنه، ومن اللامفكر فيه الى المنقول منه. ومن ابرز المفكرين العرب الذين اتبعوا منهج دريدا التفكيكي: عادل عبدالله وكاظم جهاد وعبد الكريم الخطيبي وعبد السلام بنعبد العالي ونور الدين افاية وعلي اومليل وفتحي التريكي ومحمد اركون ومطاع صفدي وعبد العزيز بن عرفة وعلي حرب واسامة خليل الذي تعمق في دراسة دريدا وقدم قراءة عربية للبعد الكتابي في فكر دريدا.

وفي النقد الادبي – التفكيكي يبرز: عبدالله الغذامي وعبدالله ابراهيم وعلي الشرع وجابر عصفور وسعيد البازعي.

الدكتور احمد عبد الحليم عطية

 

التفكيكية والجنون 

بدا دريدا بالتمرّد على البنيوية، وهي حاولت من الناحية الفلسفية ان تبتعد بشكل متطرف عن الذاتية الانسانية التي تتسم بها الوجودية، وعن الموضوعية المتطرفة التي تتسم بها الوضعية المنطقية. ويؤكد عبد الوهاب المسيري أن البنيوية قد وجدت ضالتها في مفهوم البنية، فالبنية ليست ذاتية أو موضوعية. اما دريدا فقد رأى ان البنيوية ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من البنيويات المختلفة، على استعداد ان ترد ذاتها الى نقطة حضور واحدة او مركز او اصل ثابت. “وهدف هذا المركز لم يكن تحديد اتجاه البنية او توازنها او تنظيمها، وإنما الهدف منه وضع حدود على لعب البنية”.

ها هو دريدا فيلسوف الشك والتفكيك يخبرنا بيقين عميق انه يؤمن ايمانًا لا يتزعزع ببعض الثوابت ولكنه، كما يقول المسيري: “قبل ان يفعل ذلك، ينبهنا الى انه سيتلو علينا ما يسميه شهادة ايمان استاذ يعمل وكأنه يطلب منكم الإذن بأن يكون خائنا او غير وفي بعاداته”.

وجوهر رسالة دريدا الايمانية الجديدة هو انه ينبغي للجامعة الحديثة ان تتمتع بحرية غير مشروطة. فالجامعة هي صاحبة الحق المبدئي في التفكيك كحق غير مشروط وفي قول كل شيء. وهكذا، كما يرى المسيري، يتحوّل التفكيك الى نقطة ثبات ميتافيزيقية، الى حضور وتمركز حول اللوغوس او كما يقول دريدا: “وبهذا يكون للتفكيك، ولا استحي ان اقول ذلك واطالب به، موقعه المتميز في الجامعة وفي العلوم الشاملة كموقع للمقاومة التي تضم الجميع”. 

إن استراتيجية دريدا من دون غاية وتفكيره لا هدف له، وذلك أشبه بالجنون، ويتساءل المسيري: هل يقوم دريدا بتفكيك خطابه بنفسه بادعائه ان ما يقال هو مجرد جنون وهذيان فيستعصي تفكيكه على الآخرين؟”.

ويتحدث دريدا عن العاقل -المجنون، او العاقل الذي يدّعي الجنون أو المجنون الذي يدعي العقل، فيؤكد انها استراتيجية من دون اتجاه. فلو عرفت الاتجاه لما ذهبت إليه، فهو يهتم بالمستحيل ولا يهتم بالممكن، اذ ماقيمة تحقيق شيء ممكن؟.

ان التفكيك لا يعد في الواقع، مذهبا ولا يشكل نسقا متكاملا او رؤية عامة تقوم على ثوابت محددة، وهو وإن كانت تنسب ابوته الى الفيلسوف الالماني المعاصر مارتن هايدغر، بفعل التماثل بين مفهوم “النقض” ولفظة التفكيك، فانه في نظر محمد علي الكردي: بعيد كل البعد عن تشكيل رؤية فكرية عميقة او شق طريق فلسفي جيد، كما راق ذلك الى هايدغر.

إن دريدا مثله مثل الفيلسوف الفرنسي جيل تولوز ينتمي الى طائفة فلاسفة الاختلاف، والاختلاف المطروح ها هنا كما يقول الكردي: “هو محاولة يائسة للخروج من دائرة النسق الذي شكله وبناه اعظم الفلاسفة المثاليين الالمان وهو “هيغل”. ويشهد لهذا الأخير لأنه خاتم الميتافيزيقا الغربية، بحيث لا مجال بعده إلا لاكتشاف دروب جديدة وارتيادها، حتى ولو اصبح هذا الارتياد غاية في ذاته، تماما كما تصبح الرحلة غاية في ذاتها طالما ان الوصول هو نهاية لكل ما فجرته من تساؤلات وحققته من اكتشافات “.

إن مصطلح التفكيك الذي صاغه دريدا لترجمة عبارة هايدغر، لا يقصد به الهدم والتخريب، وانما اعادة ترتيب عناصر الخطاب على طريقة أهل النحو، ذلك أن مقطع النفي حسب اعتقاد الكردي: يراد به خلخلة تركيب الجملة لبيان الطابع الاتفاقي البحت للعلاقة بين التركيب اللغوي ومرجعيته. ففي قصيدة الشعر أو في الخطاب الفلسفي، مثلا، لا تخضع الجملة لمنطق المرجع الخارجي، وانما لضرورات الصياغة الشعرية او الفلسفية. وتبرز عملية التفكيك بوضوح في حالة ترجمة الشعر من لغة الى لغة اخرى او عندما نحاول نقل معانيه الى لغة النثر. 

وهنا لابد من ان نؤكد انه اذا كانت الاشكاليات التي يطرحهادريدا هي بطبيعتها واقعة داخل الخطاب الفلسفي، ولا تستطيع ان تفلت منه بتخطيه، وتجاوزه نحو العالم الخارجي، فهي لا تخرج عن كونها ضربا من الاعيب اللغة، ومع ذلك يكابر دريدا ويرفض ان تكون تفكيكيته ضربا من فلسفة اللغة. 

غلاف كتاب جاك دريدا والتفكيك

 

نبوءة اليوم قبل الأخير 

لعل اهم ما يميز دريدا في مرحلته الابداعية هي تلك الحرية المرتبطة بموقعه الهامشي وجرأته التأويلية القصوى التي جعلت فيلسوفًا مثل هابرماس يصف منهجه التفكيكي بالخطابية، ويقصد بذلك ان يطبق مناهج النقد الأدبي على نصوص تراث فلسفي منطقي لا تمثل الاغراض الأدبية شغله الشاغل. ومن وجهة نظر اسامة خليل: “أن دريدا في مرحلته الدفاعية، التي بدأت في الربع الأخير من القرن الماضي، تحوّل الى موسسة ذاتية تذود عن موقعها او الى مركز فردي او بالأحرى الى فرد مركزي يدافع عن تراث ابداعه الفكري “. تلك الحرية التي استباحها لنفسه في النقد والتفكيك.

ويتساءل اسامة خليل: “كيف يكتشف البعض في اعمال دريدا مواقف ايديولوجية واحكاما مسبقة، وهو الذي يندد بالمواقف الايديولوجية والاحكام المسبقة ؟ وكيف يكتشف البعض لديه بعدا قوميا يهوديا وهو الفيلسوف الذي يندد بالنزعات القومية في الفكر الغربي، ويقول إنه 

 فرنسي، جزائري ويهودي غير يهودي”؟. 

هذا، وقد ادار السجال بين دريدا وخصومه، لتبيان بعض المبادىء والمسلمات المنهجية التي لا تلقى القبول العام في كتاباته التفكيكية الأولى. يقول دريدا: “ليس هناك وجود كان حاضرا في الماضي يمكن للذات العارفة استحضاره او تمثله ومن ثم لا يبقى غير نسق العلامات”. وهذه العلامات ليست وجوها مرئية تحيل لا الى موجودات خفية كما تحيل سطوح المكعب الى المكعب، فليس هناك باطن هو الوجود وظاهره والعلامات الدالة على هذا الوجود.

ويؤكد اسامة خليل أن “العلامات لا تشير الى مشاعر باطنة كما تشير الدموع الى الحنين والأسى. والعلامات اختلافات تكرر الاختلاف، وتتأسس على اصلين: أصل الخلق والارجاء، وأصل الزمان. الأول أصل قبل انطولوجي يتجاوز المقولات الانطولوجية الى ما وراء الوجود او الى ما قبله، ويمثل اليه التعاقب والارجاء والأثر شرط أن يفهم الاصل هنا باعتباره والبعدية صفرية لايسقها قبل، فالأثر هو خليفة الآخر، لكن هذا الآخر غائب غير موجود ولا يعني شيئا. والثاني أصل الزمان الذي نحار تفسيره، فبينما تكاد تجمع النظريات الفلسفية على تصور الزمان باعتباره صورة حسية قبلية لملكة الفهم او برده الى الشعور والوجدان، يفترض دريدا زمانا موضوعيا اكثر واقعية من تصوّر الوجود في الفلسفة الغربية..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *