عبدو ياغي الصّوتُ الهادِر

Views: 569

 الدكتور جورج شبلي

 

كيفَ يمكنُ لحنجرةٍ أن تُصَنِّفَ نفسَها وكيلاً لِصَوتٍ لا يحيا إلّا في المَزاعم، موجودٍ في زمنِ الإِعجاز، يستعينُ بهِ الذَّوقُ ليفوزَ على الدّهشةِ، من دونِ أن يُتَّهمَ بِعَيبٍ، أو يُؤخذَ عليه سَقطة ؟ هو عبدو ياغي الذي في أمصارِ صوتِهِ بياناتٌ لا جدالَ في أنّها لم تُعطَ لسواه. ففي مناهجِ أدائِهِ موفورُ القدرةِ، ما حمَّلَه مسؤوليةَ أن يحملَ صوتَهُ بيَدَيه، ليقدّمَه لسامِعيهِ كَحَقٍّ يملكونَه، والغريبُ هو : كيفَ لمالِكِ اللُّؤلُؤِ أن يتنازلَ عنه ؟ 

إن الألوانَ الغنائيّةَ أنماط، أَصعبُها النّوعُ الطَّرَبيُّ الذي لطالما نَصَّبَ مُتقِنيهِ الوجهَ الريادِيّ، لأنّ مَن يقترفونَ خطيئةَ ادِّعائِه، يقعون، وبسهولةٍ، في مُنزلقاتٍ تفضحُهم، فالطَّربُ خيارٌ خطيرٌ لِمَن لا تتملّكُه المهارات. من هنا، عندما قرَّرَ عبدو ياغي أن يطوفَ في طقوسِ الغناء، راحَ الى الصَّعب، لا لأنهُ أرادَ أن يستقلَّ مَتنَ النجاحِ، دفعةً واحدة، فحسب، وفي ذلك مغامرةٌ لا يجابهُها إلّا الأُستاذون، بل لأنّ أصالةَ براعتِهِ أخذَته، تلقائيّاً، الى مجالِها لتُنَصّبَه، في تفوّقِهِ، من المُبدِعين.

لقد أفاضَ عبدو ياغي على المَغنى مذاقاً عذباً، ونجحَ في أن نحظى، به، بملّاحٍ خبيرٍ ينطلقُ بنا في رحلةٍ صوبَ بلادِ الدّهشةِ، والنّشوةِ، لنسمعَ أبهى من لَحنٍ يُرحِّبُ بنجمةِ الصُّبح. وما كان ليتمَّ له ذلك، لولا تزاوُجُ عناصرِ الموهبةِ، والإتقان، وعجقةِ مَيلِهِ الى المَغنى، في صياغةٍ صوتيّةٍ يصعبُ الإرتقاءُ إليها. لكنّ عبدو غرسَ في المغنى إحساساً حيّاً، وفي ذلك قوّةُ سطوةٍ، وتَوَقُّدُ تاثير، لا يمكنُ الدَلُّ عليهما بإشارةٍ فاترة، لأنهما بَثّا ألحاناً أطربَت مَنْ أصغى إليها بقلبِهِ، وليسَ فقط بسَمَعِه.

 

لقد ضحّى عبدو ياغي بكثيفِ الإنتاجِ لمصلحةِ المستوى، فما كانَ مُبَذِّراً على عَجَل، لأنه كان يغنّي لنفسِهِ، قبلَ كلِّ شيءٍ، ليرضى، وليُرضِيَ، بعدَ ذلك، أنفسَ الآخرين، وفي ذلك اختيارٌ ذكيٌّ يلتزمُ بسِحرِ الأغنياتِ من غيرِ زَيَغ، ما يؤكّدُ على قيمةِ ما يُنتِج. وما يُنتِجُه في الأداءِ، وفي المسرحِ الغنائيّ، متميّزُ السّياق، يُشبِعُ النَّغمةَ، ويفخِّمُ لَفظَها، ويستوفي نَبرتَها، وبذا، يٌتقنُ النَّقرَ على الإحساس، كما على أوتارِ صوتِه.

لقد رفعَ عبدو ياغي، في أدائِه، السِّترَ عن النّشوةِ اللَّحنيّة، بإظهارِ كنوزِ صوتِهِ الخفيّة، وهي مركزُ الثِّقَلِ في مفاتيحِ الغناء، من هنا، لم يكن عبدو مغنِّياً بالمفهومِ الوظيفيّ للكلمة، بقدرِ ما كان فنّاناً ينتخبُ ما يؤدّي، بكفاءةٍ ناضجةٍ، ومهارةٍ فريدة، وتقنيّاتٍ ليست ميسَّرةً إلّا للراسخين في الموهبة. وهو، في رصيدِه، لم يواجهْ حالةَ الإنكشافِ التي فضحَت غيرَه من الطّارئينَ على فنِّ الغناء، والمصابين بمرضِ النُّجوميّة.

عبدو ياغي يعلنُ عن نفسِهِ منذ الجملةِ اللَّحنيّةِ الأولى، فيغيبُ عن بالِنا المكيال، لأنّ الجواهرَ لا تستدرجُ التَّقييم، فهي الكمالُ في القيمة. لقد وقفَ عبدو ياغي على طرائقِ الغناءِ، ووشَّحَ بمواطنِها حنجرتَه فأطاعَتها، وسطَّرَ لها التألّقَ، والفَوزَ، لا سيّما بمشاركتِهِ في منافساتٍ مع محترفينَ كبارٍ من دولٍ عربيّةٍ عديدة، من مثلِ برنامج ” the voice senior “.إنّ مَن كانَ ندماؤُهُ خَواصاً، ورازِقُهُ يفيضُ عليهِ من أقسامِ نعمتِهِ موهبةً أخّاذةً، لا يمكنُ أن يكون، في مجالِه، من قبيلةٍ مهجورة.

 

لقد منحَ الطَّربُ عبدو ياغي جنسيَّتَه، والطّربُ أرقى الأصولِ في الغناء، لأنه شكلٌ من أشكالِ التوحّدِ بين المطربِ وأغنيتِه، وهذا يُسَمّى الصّدقُ الفنّي الذي يأخذُ بشَغَفِ السّامعِ، ويُحدثُ فيه هزّةً من الإدهاشِ، هي من قبيلِ العشق. وعبدو، إذا غنّى له، أو لكبارٍ سواه، يُسَلطنُ بممارستِهِ الأسلوبَ التّأثيريّ، وبجَمالِ الصّوتِ، وبالقدرةِ على التَّطريب، ما يجعلُهُ فنّاناً ينقشُ خصوصيّتَه على الذّوقِ بذاتِه. إنّ صوتَ عبدو ياغي الذي يمتازُ بقوّتِه، وحلاوتِه، وطلاوتِه، كان يبدأُ بالقاعدةِ العريضةِ، ما يُدعى القَرار، حتى يصلَ الى الأجواءِ العاليةِ التي لا يلحقُ بها لاحِق. ففي صوتِه محطّاتٌ تنتقلُ من مذهبٍ الى غصنٍ، حسبَ إيقاعاتٍ صعبةٍ، يصقلُها لتخرجَ أكثرَ طرباً، فكأنّ مجاميعَ صوتِهِ تعزفُ، وحدَها، على آلاتٍ موسيقيّةٍ وِفقَ منظومةٍ لَونيّةٍ متوهِّجةِ الحيويّة، حتى لَنَشعرَ بأنّ هذا المطربَ يمشي بنا الى مواطنِ التَّجاوُبِ، لنصرخَ، إعجاباً، ” آآآآآه “.

إنّ مَن غدرَ به حظُّه، فسَوّلَت له نفسُه أن يغنّيَ قبالةَ عبدو ياغي، سوف يَسمعُ، لا محالةَ، مَن يُشفقون عليه، قائلين : ” يا بو السَّواعِد، ساعِدو…”.     

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. صوت هادر ومطرب نادر في زمن غادر، قد يقول قائل انه لم يستحق الشهرة الموازية لموهبته، ولكن للآصالة بصمة أزلية، والوزنة العلية التي منحت له، هي عطية للمختارين ولا تقارن بأي شهرة بائدة…
    أولا: لا احد يستطيع ان يضيف على ما كتبه الدكتور جورج، فهو ثلاثي الأبعاد وواف وكافٍ من إنسان يحترم ويقدر كل رائد من لبنان وله في ذلك عدة مقالات ومحاضرات وكتاب، ثانيا: قلة هم من يعرفون ان للدكتور اذن موسيقية مرهفة وهو يعزف على عدة آلات، ثالثاً: هذه المواطنية الصالحة بتقدير لكل رائد وناشط من ابناء الحدث الحبيبة، مما يشيع وبشجع مواهب الناشئة(وهو الخبير الأكبر فيها) على الفنون والآداب التي حل مكانها اللهو باجهزة التفاصل الإجتماعي!