تفاهمات ونكسات لبنان عبر التاريخ الحديث

Views: 502

المحامي معوض رياض الحجل

 

وردت مقولة “أتفقنا” العجائبية مُنذ قرون على صفحات تاريخ لبنان، ولكن كل الاتفاقات أو التفاهمات بقيت حبراً على ورق ولم تُخلف بعدها إلا المآسي والحروب والويلات.

من أشهر “الاتفاقات” هي تلك التي حصلت في حزيران 1840 أو ما يُعرف بـــــ “صيف 840” حيث أتفقت الطوائف اللبنانية الرئيسية أمام مذبح مار الياس أنطلياس على عدم الاقتتال المذهبي، وذلك عَبرَ التوقيع على ما عُرف حينها بــــــ “عامية أنطلياس”. لم يجف حبر الاتفاق حتى أندلعت أحداث العام 1860 الدموية في العديد من المناطق اللبنانية تاركةً وراءها القتلى والجرحى والمُشردين.

استمرت سلسلة الاتفاقات بالتدفق تباعاً إلى أن وصلت إلى الأول من أيلول من العام 1920 تاريخ أعلان “دولة لبنان الكبير” من خلال أحتفال مركزي كبير أقيم في قصر الصنوبر في بيروت بحضور المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو وكبار الشخصيات اللبنانية الدينية والاجتماعية. لم يمضِ وقت طويل حتى فهمَ الشعب اللبناني أن أنشاء لبنان الكبير هو خديعة أو غطاء أو مسرحية دولية لتسهيل دخول الدول الاجنبية وسطيرتها، ومنها فرنسا على مُقدرات وثروات البلاد النامية والطرية العود، وذلك لمدة 23 عاماً لحين نيل لبنان ما سُمي بإستقلال العام 1943.

 

الاستقلال التام

اتفقَ اللبنانيون في العام 1943 على ضرورة تحررهم ونيلهم الاستقلال التام عن الأم الحنون فرنسا، فأعلن الاستقلال التام بتاريخ 22 تشرين الثاني من العام 1943 بتشجيع من البريطانيين وبالتحديد من الجنرال سبيرز. لم تمضِ سنين قليلة ليتبين أن بُناة الاستقلال المزعوم هدفهم البقاء في السلطة للحصول على المال والنفوذ، فكان لهم ما أرادوا، فشهدَ لبنان في أيار من العام 1947 اسوأ انتخابات نيابية في تاريخهِ الحديث من حيث التزوير والرشاوى. والاسوأ من ذلك هو أن رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك أي الشيخ بشاره خليل الخوري، حامي الدستور والميثاق، والمُعتبر بالنسبة لجميع اللبنانيين المثل والمثال بالشهامة والوطنية، تَركَ سدة الرئاسة بالقوة في العام 1952بَعدَ أندلاع ثورة بيضاء أسقطت في الشارع أمكانية التجديد لهُ لمدة ستة سنوات.

 

خيمة المصنع

لائحة الاتفاقات تطول وتطول. نصل إلى آذار من العام 1959 وبالتحديد إلى منطقة المصنع الحدودية التي شهدت أبرام أتفاق ودي وأخوي تلتزمُ بموجبه الجمهورية العربية المُتحدة المُمثلة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر بإحترام استقلال وسيادة لبنان المُمثل في الاجتماع حينها برئيس الجمهورية الراحل اللواء فؤاد عبدالله شهاب.  لم يمضِ وقت طويل علىأبرام الاتفاق الشهير، الذي عُرفَ بـــــ “أتفاق الخيمة”، حتى بدأ يتحول نظام الحكم في لبنان وبتشجيع من عبد الحميد السراج مستشار الرئيس عبد الناصر إلى حكم عسكري مُقنع من خلال توسيع وتطوير دور جهاز أمني لبناني يُدعى “المكتب التاني” ليُصبح هذا المكتب وبعد سنين قليلة مُتحكما بكل مفاصل الحكم وأدارات الدولة وصولاً إلى أختيار الوزراء والنواب من خلال التدخل في سير العملية الانتخابية لمصلحة فلان ضد علتان تبعاً لدرجة ولائهِ للعهد الشهابي.

 

“اتفاق القاهرة”

نصلُ إلى نص الاتفاق المشؤوم الذي سَاهمَ بطريقة مُباشرة في أندلاع الحرب الاهلية الطاحنة في لبنان. تاريخ الاتفاق هو 3 تشرين الثاني 1969 وسُمي حينها بـــــ “أتفاق القاهرة” وتم توقيعه في العاصمة المصرية بدعمٍ وتشجيع من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وَقعَ الاتفاق حينها عن الدولة اللبنانية قائد الجيش الراحل العماد أميل البستاني وعن مُنطمة التحرير الفلسطينية الزعيم الراحل ياسر عرفات “أبو عمار”. 

هللت في الصباح التالي جميع الصحف المحلية للنجاح الباهر في توقيع الاتفاق السحري المُفترض أن يُنهي الصراع بين الدولة اللبنانية ومُنظمة التحرير الفلسطينية إلى الأبد ويُنظم العلاقات بين الطرفين بما يحفظ استقلال لبنان وسيادتهِ ووحدة أراضيه بعيداً عن الصراعات والحروب الاقليمية. ومن أهضم ما تمَ نشرهُ في تلك المرحلة هو كاريكاتور نُشر في أحدى الصحف المحلية يُظهر شخصا راكضا بفرح وسرور بإتجاه الرئيس شارل حلو ليقول لهُ “أتفقنا”. 

 

حرب 13 نيسان 1975

لم تدم الفرحة كثيراً حتى بدأت الاحداث الأمنية تتوالى سنة بعد سنة وشهر بعد شهر. من أيلول الاسود في الاردن في العام 1970، إلى أغتيال القادة الفلسطنيين الثلاثة في العام 1973 على يد الموساد الاسرائيلي، القصف الاسرائيلي على مناطق الجنوب اللبناني بشكل مُستمر مما سَاهمَ بتهجير عدد الكبير من السكان المُسالمين نحو العاصمة بيروت وضواحيها خوفاً من الموت والدمار. تداعيات هذا الأتفاق توالت فصولاً مع أندلاع شرارة الحرب الاهلية في 13 نيسان 1975 وصولاً إلى حزيران من العام 1982 حين أجتاح العدو الاسرائيلي قسما كبيرا من الاراضي اللبنانية مُخلفاً الدمار والخراب والموت.

قد يعلمُ البعض أو لا يعلم البعض أن الحرب الاهلية كانت ستنتهي في العام 1976 مع أعلان الاتفاق بين الاطراف المُتصارعة على وقف الاقتتال وأعادة النهوض بالبلد وخاصة مع أنتخاب رئيس جديد للجمهورية الياس سركيس بهدف خلق الأمل لدى اللبنانيين بغدٍ أفضل لهم ولأولادهم. لم يمضِ وقت طويل حتى أنهار الاتفاق إلى غير رجعة وبقيت شرارة الحرب مُستعرة إلى حيث توقيع أتفاق “الطائف” الشهير في العام 1989.

اتفاق الطائف

صحيح أن أتفاق الطائف الشهير أستطاع بسحرِ ساحر وقف الاقتتال الدموي بين اللبنانيين وأعادة فتح المعابر وأزالة الحواجز العسكرية وعودة السلم الاهلي، ولكنهُ لم يُعبد الطريق أمام تحويل لبنان الى دولة حديثة عصرية بل بقيت أجهزة الادارة في دولة مُترهلة ومُهترئة تحكمها المُحاصصة، الطائفية والزبائنية لغاية تاريخهِ، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا اليه من وضعٍ أقتصادي سيّء ومديونية عالية وتضخم مالي لم يشهدُ له لبنان مثيلاً حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية المشؤومة.

“عامية جديدة”

التاريخ هذه المرة هو 14 آذار 2005. في ذلك اليوم صَدحَ صوت الصحافي الشهيد جبران تويني في ساحة الشهداء مُردداً قسمهُ الشهير الذي أعُتبرَ بمثابة “عامية جديدة” غير مكتوبة بين اللبنانيين تدعو إلى الوحدة والابتعاد عن الاقتتال. لم تمض أشهر قليلة على تلاوة القَسم الشهير حتى شهد لبنان اسوأ موجة من التفجيرات الارهابية التي طالت العديد من الشخصيات ومنهم الصحافي الشهيد جبران تويني بتاريخ 12 كانون الاول 2005.

 

“ترسيم الحدود البحرية”

أما الاتفاق الأبرز والاجدد فهو ما يُسمى بإتفاق “ترسيم الحدود البحرية” بين الدولة اللبنانية والعدو الاسرائيلي برعاية الولايات المُتحدة الاميركية ومُباركتها. لن أدخل في تحليل التفاصيل التقنية للاتفاق، أي الاحداثيات، ولكن أكتفي بمقارنة ظروفه والسرية المُحاط بها بتلك التي كانت موجودة في العام 1969 عند توقيع “اتفاق القاهرة” الشهير، حيث لم يعلم نواب الأمة حينها سوى صدفةً بتوقيع الاتفاق من خلال الصحف وبالتحديد صحيفة “النهار”، التي نشرت نص الاتفاق كاملاً. بعض من عايشوا تلك المرحلة يروون أن صوت العميد الراحل ريمون إده الجريء علا في قاعة مجلس النواب اللبناني، مُحتجاً وقائلاً: “سائق (قائد منظمة التحرير الفلسطينية) ياسر عرفات يعرف مضمون أتفاق القاهرة، فيما أنا نائب في البرلمان اللبناني ولا أعرف بهِ”، وفي ذلك “لطشة” إلى العماد البستاني الذي وَقعَ الاتفاق قبل إطلاع نواب الأمة عليه. أما في مجلس الوزراء، فالوضع لم يكن أفضل. ذلك أن صاحب المبادئ القائمة على صون هيبة الدولة اللبنانية في العمل السياسي أعترضَ على هدوء رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو تجاه العماد البستاني الذي رَفضَ حضور الجلسة الحكومية، المُخصصة لمُناقشة الاتفاق، بذريعة المُشاركة في دفنِ أحد أقاربه. وفي التفاصيل أنه بينما كان الرئيس حلو يقولُ للبستاني عبر  الهاتف  Mon Général، ندعوك إلى حضور جلسة الحكومة، أستشاط العميد أده غضباً، مُطالباً بالحزم في مُخاطبة قائد الجيش اللبناني، على أعتبارهِ موظفاً من الفئة الأولى، فأستقالَ من منصبهِ.

تفردَ حينها العميد ريمون أده في مُعارضة “أتفاق القاهرة” الشهير الذي وقعهُ قائد الجيش العماد إميل البستاني عام 1969، مُكرساً لبنان ساحة مفتوحة للفدائيين بمواجهة العدو الاسرائيلي، حيث تخوفَ من أن تقع البلاد في فخ هذا الكباش الدموي، وتعجز عن الخروج منهُ سالمة ومن دون أضرار قاتلة، وهذا فعلاً ما حَصلَ لاحقاً في العام 1975.

أما اليوم فالسؤال المطروح: متى سيعرف الشعب اللبناني الغارق بازماته المعيشية والحياتية بمضمون أتفاق ترسيم الحدود البحرية النهائي أم سينتظر صفحات الجرائد والمجلات للاطلاع على مضمونهِ؟

اتفاق القاهرة في العام 1969 أوصلنا إلى اندلاع حرب أهلية مشؤومة لا نعرف لماذا بدأت ولا نعرف لماذا أنتهت. على أمل ألا يوصلنا “اتفاق ترسيم” إلى هاوية أو منزلق خطر يُدخلنا في دوامة حرب جديدة تقضي على ما تبقى من مُقومات الدولة اللبنانية وعلى ما تبقى من شعبٍ صامد فضّلَ البقاء في أرضهِ ووطنهِ بدل الهجرة إلى الخارج. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *