الحقيقة… والقلق الإنساني!

Views: 259

حمزة منصور

 

تتخذُ موقفاُ تسكنه الحكمة ولا يأويه الضعف، فيراه الحكيم حكمة والضعيف وضاعة…وتضيع الحقيقة إلا في أروقة عقول حكماء، تتنزه في تجاويف أدمغتهم  بخائر  “الحمبلاس” ، فإنها تبقى متقدة كالشمس لا تنضب…هي حكمة “بروتوغاروس”:

“الإنسان مقياس كل شي”…. لا توجد حقيقة واحدة.

إذاً ما هي حقيقة الحقيقة؟

هل نستطيع كسر  سوار أسوارها وسبر أغوار مجاهلها؟

كيف نتعرف عليها ونتجه إليها طالما ليس لها سكنٌ خاص يأويها؟

هل تسكن بمفردها أم في أروقة عقول أصحابها؟

قد يقول قائل،لا يعرف حقيقة ما يقول، أو يقول ما لا يريد قوله،أو يريد قوله، لِمَ كل ذلك الكم من  الأسئلة  المصوّبة  سهامها إلى كنه الحقيقة؟

مرة جديدة نعود إلى الفلسفة وتعريفها لنستلّ تعريفاً جميلاً ووظيفياً للفلسفة  عندما عرّفها الفلاسفة  بأنها الأسئلة، وبأن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة.

لنرجع إلى خط سيرنا المتجه نحو كنه الحقيقة.

هي إذاً، الحقيقة، لا سكن يأويها، هي تسكن إذاً تجاويف أدمغة البشر، وطالما هي كذلك فمن الطبيعي  أن تحفظ “حرمة” منزل من أسكنها وأواها وضمّها ومنعها من التشرّد،هي تتعاطف  إذاً مع من حماها من التشرد.

الآن نتجه صوب شواهدنا  البشر لنرى شكل حقيقتهم، هل هي واحدة ام أشكالاً متعددة بتعدد أرقام البشر أينما كانوا واي مجتمع حلوا ، من أرقى المجتمعات إلى أكثرها تخلّفاً وبدائية، من أرقى عقول البشر وأكثرهم اقتراباً وامتلاكاً للحكمة إلى أكثرهم نفوقاً لها.

نلاحظ حتى الحكماء أو “محبي الحكمة” لم يتوانوا  عن خرق مفهوم الحقيقة النسبية وراح كل واحد منهم صوب حقيقته الفلسفية، بل وعدوا ذلك الاختلاف والتعدد  بامتلاك “حقائق نسبية مختلفة” هو كنه وديدن الفلسفة “ليس هناك فلسفة واحدة بل فلسفات”.بعكس العلم والحقيقة العلمية، في العلم حقائق علمية واحدة، كالعناصر  التي تدخل في تركيب الماء هي نفسها عند آلاف الكيميائيين، بينما حقيقة الله أو السعادة أو الخير أو ماهية الإنسان أو سبب وجوده أو هدفه من الحياة أو أو … لها أسباب وأجوبة متعددة بتعدد أرقام وأعمال وأشكال الفلاسفة.

لكن حتى الحقيقة العلمية ليست مطلقة، تتغير بتغير الوقت والزمن وفكر العالم،هي صحيحة طالما لم يأتِ من ينقضها.

ألم تكن الأرض مسطّحة وثابتة لآلاف من السنين؟ أليست اليوم بيضاوية  ومتحركة؟  وهل ستبقى كذلك؟

رجعنا إلى نسبية المفاهيم، اي لا حقيقة واحدة… ونبقى وسنبقى هائمين  على وجوهنا  طالما نحن بشر، وهل نستطيع أن نكون غير بشر في يوم من الأيام ؟

ربما نعم وربما لا…لكن لنختم  اشكاليتنا  باشكالية أخرى أهم من الأولى…هل هناك فعلاً حقيقة واحدة جاهزة تنتظر مجيئنا إليها؟ هل القمر موجود ليحوّل  ليلنا إلى نهارات؟ هل هو يعلم ذلك؟ من هنا نستطيع القول: في الأساس لا وجود  لشيء اسمه حقيقة،سراب انساني  مصدره القلق.

لكن، لِمَ هذا الاصرار على بلوغ شيء ما؟ من هو سبب هذا “الانجذاب  المغناطيسي “من داخل الإنسان إلى خارجه؟ من أوجد وحرك هذا “الشوق” للحقيقة والبحث عنها؟

ألا يدلّ هذا الشوق لشيء ما على  وجود  هذا المشوق؟

طالما لا نستطيع الحصول على الشوق في عالمنا هذا، وطالما الشوق موجود بقوة رغماً عنا، فإننا ربما نستطيع  افتراض  القول إن  الشوق موجود  في عالم آخر مفارق… تماماً كما ادعى  أفلاطون…عالم المُثل.

***

(*) الصورة الرئيسية: القلق الإنساني لوحة لمنصور الهبر

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *