إيتيل عدنان… الضوء الأبدي الذي لن ينطفئ رغم الغياب

Views: 754

حورية الخمليشي

 

إيتيل عدنان الرسامة العالميّة، والشاعرة العاشقة المولعة بالماء، والجبال، والأزهار، وكل أسرار الطبيعة، كتبت ديوانها الأول “كتاب البحر” الذي تقول فيه “أنا أكتب ما أرى، وأنا أرسم ما أنا عليه”. هكذا استمدت إيتيل عدنان من زرقة البحر عشقها الأول للأزرق، وروحانيّة الفن من ضفاف الأزرق. فهيمنت الزرقة في فضاء لوحاتها التي يتواشج فيها الشعر والفن معاً. فشِعر إيتيل عدنان تشخيصٌ لمعاناة الإنسان في كل العالم. ومن أبرز أعمالها الشعريّة قصيدتها الطويلة “يوم القيامة العربي” التي صدرت بالإنجليزيّة عام 1998. أما قصيدتها “27 أكتوبر” فقد صدرت بالفرنسيّة على إثر الغزو الأمريكي للعراق عام 2003،وتُرجمتا إلى اللغة العربيّة.وقد كتبت أيضاً عن الثورة الفيتناميّة، وحرب الجزائر وغيرها.

وترى عدنان بأن الحب هو الذي يجعلنا ندرك معنى الوجود. لذلك ناهضت الحروب والانقسامات. فهي القائلة “أنا الضوء/ تكسرني الدقائق/ تأخذني/ كأجراس كنيسة ريفية/ أنا العتمة.” هكذا تشكلت قصائدها بين الألوان الشعريّة والألوان الفنيّة، بين الضوء والعتمة. فكانت قصائد بصريّة زاهيّة الألوان، إذ رسمت رحلتها في عالم الإبداع بكل حريّة مُتجاوزَة للزمان والمكان. لذلك تجسّدت في لوحاتها صوَر الجمال المرئيّة، بعد أن تحوّلت الألوان إلى إيقاعات ورموز. فكانت فنانة استثنائيّة ترسم بالقلم وبالفرشاة.

 

إن لوحات إيتيل عدنان لوحات عشق أبدي تثير فيها العديد من الأسئلة عن حقيقة الأشياء، من خلال تجليّات الخطوط والفراغات والأشكال، ومن خلال تناولها للألوان كالأصفر، والأزرق، والأحمر، والأسود في حراك بصري مدهش. فبالألوان تفكّك العالم لتعيد صياغته برؤيا فنيّة بصريّة جديدة.

وما يميّز خصوصيّة اللون عند إيتيل عدنان هو تدرّجاته وتحوّلاته الانزياحيّة الذي يمنح الفنانة صبغتها الخاصة. فكتابة اللون وشعريّته هو ما يميّز أعمالها الفنيّة المزدانة بالشعر. فهي مغرمة بالطبيعة، والجبال العاليّة، والغيوم، والضباب. فالطبيعة هي مركز الصدارة في أعمالها الفنيّة كما نجد عند اليابانيّين والصينيّين. وقد انفتحت إيتيل عدنان على الفن الياباني في استعمالها لدفاتر “الأكورديون” مستغلّة فضاءاتها للكتابة الشعريّة والخط والرسم.ولها العديد من الكتب الفنيّة المطويّة على الطريقة اليابانيّة التي تمتاز بجماليّة وروحانيّة عاليّة. لذلك جاءت لوحاتها متعددة الأساليب والرؤى الفنيّة. فسعَة الخيال عند إيتيل عدنان مرتبطٌ بسعة ثقافتها وخبرتها الفنيّة.

فهي ترى دائماً بأن رسومها انعكاسٌ لحبها الكبير للعالم، وانعكاسٌ للطبيعة وتجليّاتها. فكثيراً ما صرحت في حواراتها بأن الرسم هو “الكتابة بلُغة الضاد”.

وقد درست إيتيل عدنان في مدرسة فرنسيّة في بيروت، فكانت الفرنسيّة لغتها الأم. وانتقلت بعدها إلى باريس لمدة ثلاث سنوات،لتسافر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لاستكمال دراستها. فهي فنانة متعددة الثقافات واللغات: سوريّة، يونانيّة، لبنانيّة، فرنسيّة، وأمريكية. وهذا التعدد والاختلاف هو ما صبغ أعمالها الفنيّة بالعمق والتفرّد، وهي رسّامة مختلفة مجدّدة. فكل لوحة من لوحاتها تجربة في حد ذاتها، ورؤية مصدرها الإصغاء إلى الطبيعة، أو إلى قصيدة شعريّة، أو عمل روائي، أو هواجس تسكن الذات وإحساسها الجمالي المرهف، أو معاينة الواقع الرمزي وبراءة الطفولة. فلوحاتها مقامات وأحوال مختلفة في موضوعاتها وعمقها الجمالي الشعري. تنصت عدنان من خلالها إلى الصوت المستقبلي وصفاء الحياة، في التواصل بين الذات والآخر، وبين الذات والعالم.  

 

في لوحات إيتيل عدنان كشفٌ وخلقٌ لصوَر تتولّد من بعضها البعض وتنسج في خيالنا لوحات وأحلام مضيئة. فهي لا تنتمي لأيّ مدرسة فنيّة. وقد كتبت العديد من المقالات عن الفن في جريدة الصفا. وتمتاز أعمالها الفنيّة بالتجريد. فهي نموذجٌ فريد في لقاء الحضارات وامتزاج اللغات. وقد جاءت لوحاتها مزيَّنة بأشعار العديد من الشعراء العرب كالسياب، وأدونيس، ويوسف الخال، ومحمود درويش، وبلند الحيدري، ونذير العظمة، وجورج شحادة، ومي مظفر، وشربل داغر… فهي شاعرة وفنّانة مُفعَمةٌ بالحُلُم الطفولي وبالفرح اللوني وبغبطة الحياة، وبالمعاناة الإنسانيّة.

إن الرسم عند إيتيل عدنان نصٌّ بصري يتجاور مع النص الشعري، يستمد جماليته من شعريّة الشعر وشعريّة الفن وروحيّته. و كتابها “رحلة إلى جبل تملباييس”، الذي ترجمه أمل ديبو، من أجمل ما كُتِب عن الطبيعة، وفلسفتها، وجمالها. بذلك تنتمي إيتيل عدنان إلى كل الهويّات، والثقافات، والحضارات بأعمالها الفنيّة العابرة للحدود والقارات. فهي الضوء الأبدي الذي لن ينطفئ رغم الغياب.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *