سماح إدريس الآداب وبيروت وفلسطين… سيرة مثقف ملتزم

Views: 942

سليمان بختي

 

لا أزال أذكر حواري المطول مع سهيل إدريس (1929-2008) بمناسبة مرور خمسين عامًا على إصدار مجلة “الآداب” البيروتية.

 كان ذلك في العام 1993 يومذاك وردا على سؤال حول: من هم برأيك أصحاب الفضل في مسيرة “الآداب” نحو عقدها الخامس؟ وجّه الروائي والناشر ورئيس تحرير “الآداب” سهيل إدريس التحية إلى الأديبين المناضلين رئيف خوري وحسين مروة. وأضاف: “تحية صحيحة وصادقة وعميقة إلى رفيقة دربي عايدة مطراجي إدريس… ومثلها إلى سماح إدريس الذي يرفع الآن عن كاهلي كل مشقات المجلة ليتحملها على عاتقه الشاب ويواصل بها المسيرة الشاقة”.

 

وعبرت في عينيه دمعة حنان ودمعة اعتزاز. أورث سهيل إدريس ابنه سماح (1961-2021) الإابتسامة الطيبة والموقف الصلب من قضايانا الحقيقية وأورثه الألقاب التي أجاد فيها وتجلى، فكان رئيس تحرير مجلة أدبية منذ العام 1991 (الآداب تحولت إلكترونية منذ 2012) وباحثًا ومترجمًا وروائيًا وكاتب قصة للأطفال ومؤلف قواميس (تابع العمل على قاموس المنهل).

ولكن سماح أضاف إلى كل ذلك الناشط السياسي الصلب والمدافع الشرس ضد المقاطعة والتطبيع. كان يبني على الإلتزام والمحاسبة وعيًا نقديًا حادًا وكان يعرف الحدود الدقيقة بين الناشر والكاتب والناشط. وكان شاهدًا على التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عصفت بلبنان والعالم العربي.

 

ولد سماح إدريس في بيروت عام 1961. بعد نيله البكالوريوس في الاقتصاد والماجستير في الآداب من الجامعة الأميركية في بيروت (برسالة عن رئيف خوري مفكرًا وناقدًا) التحق بجامعة كولومبيا في نيويورك وحاز الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط 1991. كان موضوع أطروحته “علاقة المثقف العربي بالسلطة”. درس على يد إدوارد سعيد وترجم له لاحقا بعض المقالات.

 عاد إلى بيروت ليتابع ما نشأ عليه وهو “مجلة الآداب” وكان يعرف أنها منارة عالية  ومغامرة مستحقة، وأنه أحد حراس هذه المنارة في بيروت مستندا إلى مبادئ الالتزام ورفع الهمم والدفاع عن فلسطين. كان شعاره “إذا تخلينا عن فلسطين تخلينا عن أنفسنا”. كانت فلسطين نقطة ضعفه ونقطة قوته. وكانت آخر محاضراته التي ألقاها في مؤتمر المسار الفلسطيني البديل في تشرين الأول 2021 بعنوان ” المسار الفلسطيني البديل” ( الرمز، البديل، الحاضنة).

 

كتب سماح إدريس في أدب الأطفال وكان يستهدف المعنى وقيم  النشأة وتبسيط الفصحى للأطفال، وفي تعزيز مشاركتهم في الحياة وفي صنع القرار. شكى غير مرة بأن ابنتيه ناي وسارية لا يجذبهما أدب الأطفال بالعربية.

كتب خمس روايات للناشئة وإحدى عشرة قصة مصورة للأطفال من بينها: ” تحت السرير” و”حين قرر أبي”  و”فلافل النازحين” و”النصاب” و”خلف الأبواب المقفلة” و”الملجأ” و”محالم يسع للجميع” و”ولد من بيروت” و”قصة الكوسى” و”الشباك” و”الكل مشغول” و”أم جديدة” و”طابتي الذكية” و” قصتي” و”البنت الشقراء” وغيرها.

 وكان يحرص أن يقرأ قصصًا وروايات أمام مجموعة من فتيان مخيم شاتيلا ظهيرة كل أحد. جال على المدارس قارئًا وراويًا ومناقشًا أدب الأطفال. وكذلك استقبل الأطفال في معرض الكتاب في بيروت وقرأ عليهم بعض القصص. كما سجل بعض القصص بصوته على اليوتيوب لمرضى سرطان الأطفال. وكتب مؤلفين في النقد الادبي “رئيف خوري وتراث العرب” (1986) متناولا نهج الأديب رئيف خوري ومقاربته النقدية. وكتاب “المثقف العربي والسلطة” بحث في روايات التجربة الناصرية (1992) وتناول فيه علاقة المثقف العربي والسلطة. وهذا الكتاب هو أساس أطروحة الدكتوراه.

 

 ولديه عشرات المقالات وترجمات لمقالات إدوارد سعيد. كما ترجم كتاب “صناعة الهولوكوست” و”تأملات في استغلال المعاناة اليهودية” 2001 ، “إسرائيل، فلسطين، لبنان، رحلة أميركي يهودي بحثا عن الحقيقة” 2008 لنورمان فنكلستين. كذلك ساهم في ترجمة كتاب “الماركسية النص والاستشراق ” لجلبير الأشقر 2013.

 عدا على جهوده الحثيثة في إكمال المشروع الذي بدأه والده مع الشيخ صبحي الصالح في العمل على إنجاز وتأليف “المنهل العربي الكبير” والذي يعد أكبر وأشمل معجم عربي 3 أجزاء (يعد للنشر).

عمل سماح إدريس على نشر الفكر العلماني وتجديد الفكر القومي ولبث في نضاله الصلب لا تتزحزح بوصلته عن حق يؤمن به ويناضل لأجله وخصوصًا في دعم القضية الفلسطينية والمقاومة ومقاطعة إسرائيل. كان سماح وفيا لمهنة النشر مرددا “نحن لا نملك مهنة غير الكتابة والنشر المستقلين”. وكان يسمى الناشرين المستقلين بأنهم شهداء النشر.

 

التقينا وتشاركنا معًا في عدة ندوات وواحدة منها كانت عن المفكر الراحل هشام شرابي وثانية  في الجامعة الأميركية عن الرواية العربية الحديثة. سألته غير مرة لماذا لا يصدر عددًا ورقيًا تذكاريًا سنويا للآداب فقال:”الفكرة واردة ولكن الإنتاج مكلف في زمن الحصار”. ولكن لسماح الفضل في أن تكون مجلة “الآداب” منذ 1953 حتى اليوم متوفرة إلكترونيا.

أحب سماح إدريس اللغة العربية حبًا جمًا واعتبرها هواه الأول. وقال في محاضرته في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2017 “نحن لا نستطيع أن نتحدث عن أزمة اللغة العربية في معزل عن تدمير حواضرها الأساسية بفضل الحروب الداخلية والخارجية”.

في السنتين الأخيرتين وقبل إصابته بمرض السرطان لبث سماح إدريس يرصد ويتابع ويشد الأزر في اهتمامات متواشجة مثقفًا عضويًا اتسعت همته لآمال مجتمعه وبحماسة وكأنه في كل مرة أمام بداية جديدة ونهضة مرتجاة. فلا عجب أن يكتب في آخر افتتاحية لمجلة الآداب عدد تموز 2021 وهي بعنوان “ترف الإنتاج الثقافي المستقل”: “نحاول أن ننهض وأن نواصل عملنا لأننا، ببساطة، لن نرضى بأن نهدي الأوغاد والمرتزقة والعملاء والخونة والسارقين متعة الرقص على جثثنا وأحلامنا ونشوة التلذذ بسرقاتهم. وسنكون إلى جانب كل من يعمل بكد وتفان وحب، على الخلاص من سارقي أحلام شعبنا في الحياة الكريمة الحرة”.

 غادر سماح إدريس بيروت في غفلة من نفسه وآلامه وأحلامه ولكن لا يزال عنوانًا فيها وعلمًا من أعلام العروبة وفلسطين والثقافة والحرية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *