لماذا يستمر الدين والإيمان ويقويان؟…

Views: 265

  زياد كاج

 لماذا يستمر الدين والإيمان ويقويان في قلوب الناس والمؤمنين في الأرض؟ فمهما تغيرت الأحوال والأزمنة  وجال وصال العقل البشري في الفضاء الخارجي اللامحدود والداخلي الغامض تبقى الحاجة الملحة لوسادة مريحة يضع عليها الإنسان رأسه  المتعب آخر النهار كي يغفو على ريش  النعاس والأمان.

    الوجود الإنساني حمله ثقيل ومتعب إذا ما ناطحه الملحد العنيد؛ وهو المؤمن غير وعي. البعض يولد ضمن دائرة أحد الأديان السماوية الثلاثة أو إحدى الديانات الوضعية . وقد يقرر البعض الانتقال من دائرة إلى أخرى لإحساس بفراغ ما. وقلة قليلة تجمع من كل حقل وردة وتخترع سلامها ويقينها الخاص. وهؤلاء من النخب الخاصة.

   بعد التعافي من عملية جراحية وبقائي في البيت لفترة طويلة، اكتشفت ضعفي ومدى معطوبيتي وحاجتي الماسة لحك فانوسي الإيماني الخاص المغطى بغبار الإهمال. ولكل إنسان فانوسه وربما قاموسه الخاص.

” ما عاد بدها يا زلمي. لوين بعدك رايح؟”

   عادت بي الذاكرة إلى اللحظات والخبرات الأولى التي وعيت فيها العالم الديني من حولي ورموزه الجمالية والروحانية. أمور وأشياء نلمسها ونختبرها ونحن صغار دون أن ندرك أنها بذور أشجار وأفكار تُزرع في عقولنا دون تخطيط أو سوء نية. كان ذلك في زمن لم يكن لرجال الدين دور رئيسي في تعليم  وتوجيه الأولاد كما هو اليوم. ويوم كانت المدارس لتحصيل العلم فقط ولم تدخل بعد مادة “بناء الأسوار العالية بين البشر” في المنهج الدراسي.

   “رجعوا ستي وجدي من الحج”.

ترددت تلك العبارة على ألسنة أبناء وبنات العم والعمات في أرجاء بيت جدي الروفي في عائشة بكار. نحرت الخراف تحت ودخلت جدتي “ام مصطفى” بالثياب البيضاء ووجهها منورًا. أسقتنا مياه زمزم وأهدتني مجسم صغير للكعبة الشريفة. قيل يومها إن جدي وجدتي سافرا وعادا من الحج عن طريق البر. في بيت جدي كانت أجواء رمضانية رائعة، وكانت ليالي السحور، وصوت الطّبال، ومعمول العيد الذي كانت تصنعه بأدوات خشبية في مطبخها الواسع والكريم. ثم رأيت جدي خارجاً من صلاة العيد من الجامع القريب وسمعت أن عمي الكبير، مصطفى، صوفي الهوى ويتبع طريقة الدراويش. أخي نقلني بنعومة  إلى جامع الفاروق حيث سمعت محاضرات شيخ شامي كسر الصورة  النمطية لرجل الدين العبوس . بعد سنوات كانت لي زيارات معدودة إلى جامع قريطم حيث اكتشفت  كبار رجال أهل المنطقة والأجواء الإيمانية الطيبة العابقة بهواء رأس بيروت النقي.

   أبي لم يكن متديناً بالمعنى الطقسي. ناطور بناية، يكره الحرب، علماني، يشرب كأس ويسكي ويمزمز على قطعة جبنة عكاوي لضيق الحال. مثقف ويقرأ  جريدة النهار وجرائد سباق الخيل. يردد جمل قرآنية –يحيي العظام وهي رميم—خلال مبارزة طاولة  زهر مع جارنا أبو علي. أمي لم تبشر بالمسيحية في عقولنا. فقط قالت فليكن حب وصبر ونفذت، فسرنا على دربها. لم تكذب ولم تسرق ولم تعادِ أحد أمامنا. شجرة الميلاد الكبيرة كان أبي يعتني بتزيينها وأصدقاءه من آل عيتاني وصيداني والغالي. وعيت لفرح الرموز المسيحية. خالتي ناديا كانت جريئة وطحيشة. أخذتنا إلى مغارة جعيتا وإلى حاريصا ودخلنا الكنيسة ورأيت الصليب والأيقونات الجميلة وصور السيدة العذراء. نظرت فوق فرأيت التمثال العملاق. صعدت الدرج ومعي خالتي إلى أن وصلنا إلى القمة.  أصابتها نوبة سعال.  مدخنة من الطراز الأول. نظرت إلى تحت ورأيت خليج جونيه الساحر. ” كم هو جميل هذا البلد؟”

   خالتي روزيت في منصورية بحمدون—ضيعة أمي- كانت مدرسة للحب والعطاء والقلب الواسع الذي يشبه حقول عرايش العنب فوق. كانت لي زيارات كثيرة لكنيسة الضيعة في الأفراح والأتراح. لليوم، أعشق صوت أجراس الكنائس والفضل يعود لصوت جرس كنيسة منصورية بحمدون.

صوت جرس كنيسة الضيعة كان مسكناً روحياً؛ يتسلل إلى الخلايا العصبية فأصاب بخدر من السكينة والسلام وإلفة الآخر. جرس الكنيسة—كصوت المؤذن—دعوة للحب والتسبيح بخالق وباري الكون وكلاهما موسيقى للبشرية جمعاء.

   في رأس بيروت اكتشفت جيرة الجوامع للكنائس. وهي حيرة نادراً ما وجدت في لبنان والعالم العربي. في مدرسة الطليان قرب أوتيل البريستول، تعرفت إلى طيبة ووعي الأبونا القبطي الذي كان يحكم مباريات كرة القدم. وكانت لنا جيرة طيبة مع عائلات سريانية من أصول عراقية. وعندما بدأت اكتشف الحيز الجغرافي المحيط ، لفتتني كنيسة الكبوشية والسيدة الأرثوذكسية وكنيسة الوردية وكنيسة سانت ريتا التي توشك أن تعانق جامع شاتيلا.

   في بنايتنا التي اشتهرت في شارع الصنوبرة باسم “بناية الـ تي. في. تاكسي”، كانت لنا جيرة طيبة مع آل زرتاريان ومع جارنا المرحوم كوكو الذي لم أتمكن من حضور قداس جنازته في برج حمود كما طلب مني . وكانت لنا جيرة مع آل جحا من زحلة، وآل حداد، وأبو علي عطايا من طيرحرفا، وحتى جماعة شهود يهوى دخلوا بيتنا في الطابق الأول تاركين على الباب رسالتهم التبشيرية. فبيت “أم رياض” و “أبو رياض” هو أرض محايدة للجميع.

 سويسرا البناية في رأس بيروت.

   في آخر شارعنا باتجاه منطقة عائشة بكار يقع مبنى طائفة الموحدين الدروز. المبنى ضخم أبيض تعلوه سارية تحمل علم من خمسة ألوان. كنا ولا نزال نسميه “دار الطايفة”. المبنى الأبيض يضيف هيبة ووقارًا على المنطقة المحيطة وتحيط به أرض واسعة تضمن قبور دروز بيروت. هم “الدروز البيارتة” كم يسمونهم في الجبال الشوفية والجرد.

   لماذا يستمر الدين اليوم وتزداد الحاجة له؟ لأنه حاجة إنسانية عامة ولأن الزمن صعب أكثر من قبل. ماديات وتكنولوجيا اليوم لا تروي ظمأ الروح العطشى للراحة والسكينة. ولأن البشر مجبولون على الإيمان. ولأن الرسالات السماوية الثلاث صمدت في وجه العالم والتطور العلمي الذي لن يكتشف سر الكون والعالم ولا سر الإنسان. يقول القرآن الكريم “.. وكان الإنسان ضعيفا..”

هذا ما شعرت به قبل دخولي إلى غرفة العمليات وبعد خروجي منها. ثوان سريعة مرت وكأنني في حركة رجوع خاطفة إلى الخلف. قبل الجراحة الناجحة لفضل د. غسان سكاف، سألتني طبيبة البنج بعد أن لاحظت أنني خائف. ” لوين بتحب تروح؟” فقلت “إلى مقهى الروضة”.

صرت في عالم اللاوعي.

في غرفة الإنعاش وعيت على وجه ابنتي ميرا ( هي تدرس التمريض في الجامعة الأميركية). أمسكت بيدها وقبلتها. ابتسمت وغادرت. كنت قد عاهدت نفسي بالعودة إلى الإيمان وربما إلى الصلاة. لكنني اكتشفت أنني أساساً من أهل الإيمان الصافي رغم عدم التزامي الطقسي. عدت إلى سماع تجويد القرآن وبعض التراتيل الكنسية بصوت السيدة فيروز.

   يستمر الدين وتستمر الصلوات وتعلو. الآذان يتداخل مع قرع أجراس الكنائس. أمر ساحر يحصل في سماء هذا البلد لم  تهبط نعمته على الأرض بعد. سحر واعد قضينا عليه. ربما يتكرر.

   البشرية في جحيم الكورونا ومتحوراتها. العالم جن مرة أولى وثانية. الجنون الثالث احتمال وارد.

   لذلك يستمر الإيمان.

 

                         ——————

 

  

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *