الضاحية الجنوبية بيعون بيروتي

Views: 665

زياد كاج

 كيف تبدو الضاحية الجنوبية بعيون بيروتي مقيم فيها اليوم منذ 30 سنة؟

أفتح شباك المطبخ المشرف على المشهد الخلفي للبناية، فأتنشق الهواء المنعش النظيف والنور مختبz خلف الجبال الشرقية. صوت آذان الفجر المُحلق في الفضاء من صوب مسجد القائم حنون وفيه خدر. أتأمل العتمة والسكينة تحت في الموقف المشترك بين البنايات الأربع وأترحم على الحاج أبو علي حيدر باني المشروع وأنا أحتسي كوب النسكافيه الساخن ببطء ولذة.

“من عمّر ما مات”.

أتنقل والكل نيام على ضوء الهاتف الخلوي بحذر الى الشرفة الغربية بعد سماع دعاء الصباح للإمام علي المتضمن لمعاني الخشوع والايمان والتواضع أمام الخالق.

 يبدأ صرير أبواب المحال في الشارع تحت تدريجياً: جارنا بائع السمك، صاحب السيارة المتهالكة التي تشبه السمكة لوناً ورائحةً. رجل مكافح وزوجته يعتاشان من بيع السمك المشوي على الفحم فيشتهيه المارة. ثم يأتي دور اللحام الذي قل عدد زبائنه لكنه استمر معانداً الأزمة. كان قبل أزمة الدولار يذبح عجلا كل يوم. يتجمع الأولاد صباحاً لمشاهدة العملية الخطرة لإنزال الذبيحة من الشاحنة وصولاً الى عملية الذبح  والسلخ والتعليق أمام واجهة المحل النظيف. جارنا حاول اتباع حمية لكن كرشه خير دليل على فشل محاولاته. بائع الدجاج يفتح بعده. تأتي شاحنة محملة بالدجاج المرعوب والمعد للذبح والنتف. مسك الختام مع بائع الخضار الذي خفت حمولته من السوق الى المستهلك. فرن المناقيش نعيم في الشتاء جحيم في الصيف. يحضر الطلاب لتناول منقوشة الصباح التي يقال إنها تفتح العقول كما كانت تكذب علينا أمهاتنا لرخص ثمنها. يمتد الصف على الرصيف وأحيانا يعلو الصراخ خاصة أيام الآحاد لكثرة الحشد وطول الانتظار.

 بقية المحال في الشارع تفتح أبوابها بعد الثامنة أو التاسعة. فالضاحية تنام متأخرة وتصحو متأخرة ولها توقيتها الخاص.

 

أجازة مرضية طويلة منحتني فرصة متابعة حركة شارعنا وحينا بعد السابعة صباحاً. شارع أبي طالب كما سماه أهل المنطقة. المشهد جميل وواضح من شرفتي في الطابق الثاني: باصات المدارس تزورنا لأخذ الطلاب والطالبات من أمام مداخل البنايات. مدارس خاصة ومعروفة بأقساطها المرتفعة ومدارس دينية أو خاصة ذات مستوى وسط. منظر الأولاد بثيابهم المرتبة والشنط على أكتافهم والكمامات على وجوههم واعد ويفرفح القلب. الأمهات يقفن أمام بوابات البنايات لتوديع فلذات قلوبهن وهن  يدَعَوْنَ  لهم بمستقبل واعد والعودة السليمة. ثم يأتي دور الطلاب والطالبات الأكبر سناً. هؤلاء يمشون الى مدارسهم وفي رؤوسهم مشاريع وأحاديث. تبدأ حركة السيارات والدراجات النارية بالازدياد. جارنا ، معلم الألمنيوم، وابنه في نقاش صباحي حول الشغل والسياسة وارتفاع الاسعار. رجل شغوف بالعمل ويرعى عائلته وأحفاده وكلمته لا تصير “كلمتان”.

كثر من الجيران ينقلون أولادهم الى المدرسة على الدراجات النارية. ربما يرى البعض أن في الأمر مخاطرة واستهتارًا. لكن من يعيش في الضاحية ويكتشف زحمة السير اليومية الخانقة يتفهم هذه الظاهرة. عدا عن ارتفاع ثمن البنزين . لي جار وقور وموزون، شاهدته مرة يركب دراجته النارية وخلفه ولديه ثم زوجته لإيصالهم الى المدرسة. السائق الماهر والخائف على اولاده لا يتهور ولا يخاطر بأطفاله عكس غيره من الشباب الطائش.

   الضاحية الجنوبية، كبيروت، هي مناطق وأحياء تتفاوت في المستوى المعيشي والتنظيم المدني والكثافة السكانية وسواد النظام العام أو انعدامه. عدا عن مستوى الوعي والثقافي لكل منطقة وحي. فحي الأميركان هو فردان الضاحية، وبرج البراجنة هو تقريباً طريق الجديدة بيروت ( حي التمليص). وحارة حريك هي شارع حمراء بيروت والغبيري ممكن تشبيهها بعائشة بكار والملا. أما حي السلم فسمي يوما حي الكرامة، وهي تسمية سقطت مع الزمن وصار يلقب بالصين الشعبية لكثافته السكانية ولأسعاره الرخيصة.

للضاحية حسنات وايجابيات لا يعرفها الا ساكنها. أسعار السلع الغذائية والخضار والمواد الاستهلاكية أرخص من مناطق اخرى. هي فعلاً أم الفقير والدرويش. تعلمك التواضع والاحساس مع أهل الحاجة. والضاحية مدرسة في الصبر وطول البال على سوء الأحوال. سوق وعالم تجاري قائم بحد ذاته. رغم أنني من بيروت، أشتري اليوم معظم حاجياتي من محيط سكني. احب المشي في أسواق الضاحية الشعبية في الشياح والبرج والغبيري. سوق الجمّال علامة فارقة وكذلك عين السكة في برج البراجنة. وهي مدينة كغيرها تحفظ اسرارها ومفاتيح فرحها للمقربين فقط ولأهل الخبرة. في الضاحية جمال كثير لك أن تكتشفه. هو كامن ومعكوس على وجوه معظم ناسها. الطيبة ومحبة الخير وعمل المعروف سمة عامة بين الناس. فهم ثروة الضاحية الحقيقية. لا تغشنك بعض السيارات الفارهة وتلك النزعة للتشاوف المعدية. ولا بعض تلك النظرات “المروسة” والمتعصبة. ناسها بسطاء محدودي الدخل. “المعتر بكل الكون دايما هوي ذاتو”، يقول زياد الرحباني.

مقاهي الضاحية متعددة متفاوتة الأجواء والجمهور. والنرجيلة حاضرة في كل المطاعم والمقاهي. وللطلبة مقاهيهم وأماكنهم للدراسة والتعارف والدردشة. طلاب الجامعات يقصدون مقاهي تتوفر فيها خدمة الإنترنت وتقدم مشروبات ساخنة وبعض المأكولات الخفيفة. طبعاً الخمر ممنوع. أجواء وديكورات المقاهي “الأكاديمية” تختلف عن أجواء المقاهي الشعبية والما -فوق شعبية. هذه في معظمها مقصد لمدخني النرجيلة ومدمني القهوة والأحاديث السياسية وخبريات المراجل والمشاكل والصفقات ولعب الورق. المرأة لا تدخل هذا النوع من المقاهي الا بحماية رجل. بعضها يندلق الى الشارع ليحتل الأرصفة والمحيط. نسميها مقاهي الأرصفة. قاصدوها “شلمسطية” من من جماعة  العاطلين عن كل شيء الا   التدخين واللعب بالهواتف النقالة ومراقبة المشاة والبصبصة على الجنس اللطيف الملفت للنظر.

   ناس الضاحية مثلهم مثل بقية سكان هذا البلد. في جلهم ناس يسعون يومياً وراء لقمة العيش ويعملون في أكثر من شغلة. على اختلاف ما يعتقده كثر، أهل الضاحية ليسوا منغمسين بالسياسة والشعارات . هم كغيرهم تأثروا ويتأثرون بكل بلاوي البلد من فساد وتراجع قيمة الليرة وحالة الافلاس السياسي والاقتصادي والاخلاقي. هم في صدمة بعد ازدهار وتفوق. أراهم كل يوم في مسعاهم اليومي خلف العيش المقبول. يحاولون التأقلم مع الواقع القاسي الجديد. يستهلكون أقل، يحاولون تعليم أولادهم وفيهم خوف من ماض ظلمهم وحرمهم. ناس طُلب منهم الكثير، دماً ونفوساً، واليوم يُطلب منهم المزيد من الصبر على مرارة هذا الزمن. لهم كربلاءهم المستمرة  ومنها ينهلون. نافرة بل مزعجة مشاهد بعض الناس المترفين، الذين يقودون سياراتهم الفارهة ويكثرون من الاستهلاك والشراء، وسط بحر من البشهر بدأ يقتصد باستهلاك الخبز والأرزواللبنة والجبنة. كأن هؤلاء لا يعنيهم ما يجري حولهم.

   من الظواهر المخيفة،  والحارقة للأعصاب، زحمة السير الخانقة التي تحصل خاصة في فترة خروج الطلاب من المدارس وفي مرحلة المساء. القيادة وسط زحمة السير تفقد الحكيم رشده وحتى الشيخ وقاره. ومما يزيد الطين بلة، الأعداد الهائلة من الدراجات النارية، المسجلة والغير مسجلة، التي يقودها شباب متهورون طائشون لا يعيرون سلامة الناس ولا سلامتهم الشخصية أي اعتبار. كالنحل والدبابير يهجومون كجرف من أصوات الموتورات والزمامير وسط الزحام من يمين السائق وشماله حتى يخيل له أنهم قد يقفزون فون سيارته !

 هؤلاء مجانين الضاحية. حاجتها وعلتها في نفس الوقت. مشكلة مستعصية مطلوب حلها سريعاً خارج اطار تبويس اللحى ومسايرة البيئة كي لا يتأثر صندوق الاقتراع.

الفانات في الضاحية والتي تنقل الركاب من والى بيروت هي نعمة هذه المرحلة الصعبة. رغم ما يحكى عن سائقيها، أجدهم اليوم حاجة اقتصادية ومواصلاتية لا يُستغنى عنها. التنقل معهم أكثر أمانا لأنهم يسلكون خطًا واحدًا على عكس السائق العمومي. وكلفة التنقل معهم أوفر بكثير. الفانات خاصة الخط 4 وهو الأقوى بحاجة ماسة للتنظيم لتخفيف المنافسة بين السائقين. من ركابهم طلبة الجامعات والمدارس وموظفي المصارف والمؤسسات. كثر من زملائي يمتلكون رانجات يتركونها مركونة ويتنقلون بالفانات بهدف التوفير والتخفيف من التوتر . لذلك يكون معظم سائقي الفانات في حالة عصبية شبه دائمة.

   أما عن الصورة النمطية عن الضاحية وأمور أخرى لا أتقبلها في بيئة من لون طائفي واحد، فهذه تُسأل عنها القوى الماسكة للأرض. كما تُسأل عنها وسائل الإعلام  المقصرة بحق أهل الضاحية.

“كلاوي يا فول”، ينادي بائع الفول والترمس المعمر وهو يدفع عربته عابراً شارعنا كل صباح ومساء. هو يصول ويجول شوارع الضاحية ويعرفها أكثر مني.

والرزق على الله.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *