في أربعين الدكتورة غادة السمروط

Views: 443

جان توما

نأتيكِ بخعونُ، والقصيدةُ أغلقَتْ نوافذَها، وغادرَها بيتُها الأخير، فيما وقفَ مطلعُها يبكي على طللٍ.

ضاقَ الموقدُ المُفْرَدُ الوحيدُ بلهَبِ نارِ حنينِه، وراحتِ الذكرى تتقلّبُ على الاوتادْ. مذ راحتِ الغادةُ إلى ينابيع المياه تطفرُ كالايائل بين سهل ووادْ، صارتِ القافيةَ والرّويَ في ديوان “أحمدَ”، صارتِ العالمَ، فما عادَتِ المواويلُ والتواشيحُ عندَهُ تَسَعُ الألمَ.

في كُلِّ مساءٍ كان أحمدُ يتهادى مع غادتِهِ في دروبِ الضنيّةِ وطرابلسَ  والكورةِ، يسألانَ الصنوبرَ والشربينَ والليمونَ والزيتونَ عن أحوالِها، يتأملانِ وهجَ القادومياتِ والسورِ العتيق، وجلولِ العنبِ والتينِ، مرّتِ الفصولُ أمامهما في زمنِ التوترِ والاضطراب، لكنهما في صمتهما كانا أنشودةَ روحٍ، وبُحَّةَ ناي، وحفيفًا يلامسُ ورقَ العمر ” الي راح”. يا شوقَ القصائدِ الآتي، مُرّ صوبَ الآهِ، لملمْ ما تكسّر هنا من دمعِ المعلّقات، حُطَّها في قلبِكَ مطرحَ الوريد ليبقى الوجهُ حاضرا في الشريانِ التائهِ والنَّبْضِ الشريدْ.

 

كانت غادة السمروط تأتي من الكتابِ ولا تخرجُ منه، استلَّتْهُ، امتَشَقَتْهُ، كانَتْهُ في جمالاتِ التعبيرِ اللغويّ وعُمْقِ المعنى التضمينيّ، فكانَتْ كلّما أَنْهَتْ ترتيبَ الكونِ وتركيبَ مفرداتِ أدواتِهِ أعادَتْ خربَطَتَهُ، وأغْرَقَتْهُ بموجاتِ فوضى ضوئيةِ التقميشِ والتفتيشِ لاكتشافِ مجرّاتٍ ثقافيّةٍ لتسعَ الفضاءاتِ تجديدًا لعطاء فكريّ لم ينضَبْ ولن.

كان حبرُ أحرفِها مشغولًا بياقوتِ العقلِ المستنيرِ والقلبِ الطافحِ بالإيمان. كانت تعرفُ جُرْحَ الكلمةِ الإبداعيِّ، فَعَبَرَتْ إلى سحرِهِ، وكانَ الألمُ أبجديَّتَها النورانيّة. بهذه النورانيّة يقومُ أحمدُ إلى القصيدةِ كقنديلِ السفرِ، وتلويحٍ بمناديلِ العمرِ، وفي ظلالِ الخفَرْ، يلقى بين الإيقاعِ والتأوهِ وجْهَ من فَقَدْ ومَن وَجَدْ.

تبقى القصيدةُ معزوفةُ وَتَرْ، فيها سقوطٌ وتعبٌ متوّجٌ بظَفَرْ.استفسَرَتْ غادةُ مني يومّا عن انزياحي إلى تقليبِ حروفِ الكلماتِ،  فلمَعَتْ عيناها كانفجارِ نورٍ في الأُفُقِ وسابقتني كأحلامِ الأطفالِ إلى لعبة تقليبِ أحرفِ الكلماتِ: عندها الحرفُ فَرَحٌ، عندها الحبرُ رِبْحٌ، ومن وقتها تنسّكَتْ في مِحْرَابُ رِبْحِ الفرحِ فكانَتْ له… وَمَضَتْ.

***

* مساء الجمعة ٦ أيار ٢٠٢٢، في احتفال مرور أربعين يوما على وفاتها في قاعة اتحاد بلديات الفيحاء- بخعون.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *