كارمن لبّس وأستاذيّةُ التّمثيل

Views: 540

الدكتور جورج شبلي

يومَ وُلِدَ التّمثيلُ في بلادِ الإغريق، بدأَ فَنٌّ يُصَوِّرُ الأشخاص، في سلوكهم، ومزاجِهم، ويُبرزُ مكنونَ طموحاتِهم، بعيداً عن الإنفعالِ الغنائيِّ، وعن الوعظِ والخطابة. وشاءَ الزّمنُ أن يُحدِثَ تلاقحاً بين الإرثِ اليونانيِّ وبين بلادِ الأعاريب، فانتقلَت، إلينا، خطراتٌ مسرحيّةٌ ما لبثَت أن ارتَدَت حيثيّةً فنيّةً مع كِبارٍ جسّدوا ما يقومُ عليهِ التّمثيلُ من صعوبةِ الإِخلاءِ والحضور، بمعنى أن يُخليَ الممثِّلُ ذاتَه، لتحُلَّ، فيه، هويّةُ غيرِه.

كارمن لبّس اعتقَلَها شَغَفُها على مساحةِ التّمثيل، وسرَّعَت موهبتُها إيقاعَ تألّقِها، فهي لم تتمهَّلْ في إكسابِ ذاتِها صفةَ النُّجوميَة، بارتقاءِ الأداءِ البارعِ المُطَعَّمِ بالنّبوغ. إنّ الإدهاشَ، وهو مركزُ الثِّقَلِ في وَقفاتِها، جعلَها رائدةً وصاحبةَ شأنٍ، واستقامَت، معها، حِرِفيّةٌ متأنّقة، سرَت بها الى أُفُقٍ قلَّما بَلَغَه سواها. وبهذا، تجاوزَ صيتُها القِطرَ الضيّق، لتحصلَ على البَكَويّةِ في الحركةِ التمثيليّةِ أينما حلَّت. لقد طبعَت كارمن فنَّ التّمثيلِ بتقسيماتِها، هذه التي يَصعبُ التَمَكُّنُ من حصرِها في إطارٍ ثابتٍ ضيِّق، وقد يهزُّ النُقّادُ أكتافَهم عندما تُشغِلُ كارمن نفسَها بالأداء، بتعمُّقٍ وتَوَقُّد، فذلك عَصِيٌّ على بُسطاءِ القرائح، من هنا، كانت كارمن الصّافيةُ النُّبل، أَعَزَّ من أن تُؤخَذَ عليها هفوة، أو تُحسَبَ لها سَقطة. 

الجديدُ مع كارمن لبّس ليس قديماً مُجَدَّداً، فهي لم تتناولْ ما تخزنُهُ لتُعَدِّلَه وتوجِّهَهُ نحو هدفٍ جديد. لقد رفعَتِ المشهديّاتِ على عوارضَ مُبتَكَرَة، وفَّرَتها خبرتُها النّاضجةُ التي خَضَّعَتها لقوانينِ الإبداع، فأحدثَت ضجَّةً لا بشَفراتِ الضَّوضاء، أو بتَلَبُّسِ الحركات، بل بلوحاتٍ مُدهِشَةِ الجنبات، مرصَّعةٍ بذكاءٍ، وباندفاعٍ ينضحُ صورةَ خبيرةٍ، هي الأَدرَبُ في نَسجِ الرّوائع. لقد أسدَت كارمن لبّس للتّمثيلِ الرّاقي معروفاً، فكما أنّ المشهدَ في الطّبيعةِ لا يصلُ الى مغارسِ الأغصانِ، فيه، وملاقطِ الورود، إلّا مُدهِنُ العاج، كذلك، فإنّ المشهدَ التّمثيليَّ لا يمكنُ أن يوَزِّعَ سحرَه على الأميالِ سوى مَنِ التزمَ بالفنِّ هيكلاً مقدَّساً، ومرآةً حيَّةً للحياة، وهذا حَرَمٌ لا يطَأُهُ غيرُ سليلِ الإبداع.

ترتدي كارمن لبّس سِحراً سهرَت على نقائِهِ لكي يبقى حاملاً جَمالاً مطبوعاً بالذَّوق. ومردُّ ذلك الى إيمانِها  بما اصطُلِحَ على تسميتِهِ الأداءَ العالِم، بمعنى أنّ التّمثيلَ، بقَدْرِ ما هو نابِعٌ من صيغةِ الفطرة، بقَدْرِ ما هو حالةٌ مُتقَنَةٌ بالقواعد، ومن هذه الخلاصاتِ انتمى التّمثيلُ الى رقعةِ الحضارة، وأُطلِقَ على البارعين، فيه، أي على مَنْ هم صوتٌ لا صدىً، صفةُ “أَصّالين”، وهم قِلَّة.

لقد طبَّقَت كارمن في مشاركاتِها تنوّعاً في الظّهورِ، وفي الأدوار، وفي مقاماتِ المشاهد، ومضامينِ الحُضور، وذلك هو ثمرةُ عنايتِها التي ملَّكَتها قدرةً على نقلةٍ وثّابةٍ شكّلَت مفصلاً في تسلسلِ مسارِها الفنيِّ الرّائد، من هنا، لم يَفِضْ نجاحُها من فَوق. لقد ألْبَسَت كارمن، من صُلبِها، حالاتِ أدوارِها، لتتولَّدَ من هذه البانوراميّةِ بقعةٌ متعدِّدةُ الخطوط، أو بنيانٌ له أسُسُهُ وعلاماتُهُ، ارتفعَت كارمن، به، الى مصافِ مؤتمرٍ أدائيٍّ قائمٍ بذاتِه. إنّ التّمثيل مع كارمن لبّس هو فنٌّ مُطَعَّمٌ بالفرح، لا صِلَةَ له بالوقتِ لأنه منهجٌ بُعدِيٌّ يحملُ مشروعَ اللقاءِ مع الحقيقة. وقد رصَّعَت كارمن هيكلَهُ برشفةِ إبداعٍ حوّلَتهُ من صيغةٍ الى سلوك، فكما أنّ البسمةَ هي إشارةٌ لاندلاعِ النّزاعِ بين التَّدهورِ النّفسيِّ وبين الجُنوحِ الى العافية، كذلك التّمثيلُ، إنّه قدرةٌ على تَحوُّلِ المُتَلَقّين من الإحتقانِ الى التّفاعلِ الذي يؤدّي، في الكثيرِ من الأحيان، الى تلاشيه. وهذا هو التحدّي الذي يحاولُ الكثيرون من الممثِّلين أن يحملوه على أكتافِهم حَجَرَ أساسٍ لمقامِهم، لكنّ القليلينَ منهم يُصبحُ التحدّي في أدائهم مَرقَصَ شمس، وهكذا كارمن. 

كارمن لبّس صاحبةُ الشخصيةِ الجريئة، والحضورِ الملتهِب، عندما غرسَت في جنينةِ التّمثيلِ غروسَها، أثبتَت أنها نموذجٌ فريد، وصاحبةُ ريادةٍ بما تتمتّعُ به من عقلٍ نَيِّرٍ، وإحساسٍ حيٍّ، وموهبةٍ طليقة، ووجدانٍ حرّ. لقد ظهرَت، في البرامجِ والمسلسلاتِ، وكأنّها مشتاقةٌ الى إنعاشِ فنِّ التّمثيلِ من ضباباتٍ أتَتْ على قيمتِهِ، ولطّخَت مقامَه، وذلك لاستعادةِ وجهِهِ الأصيلِ المُبارَكِ لديها، هذا الوجه الذي نَشَّفَ وريدَه جَورُ المُرتزِقين، وشوَّشَ مآثرَه سَقْطُ النوعيّة. ومع أنّها أقدمَت ونجحَت، لم تذهبْ كارمن المتواضعةُ، ذاتُ الكِبَرِ الخُلُقيّ، الى الأنا المِثالي، وهو الدّفءُ المُطلقُ الذي يُضعِفُ الرّغائبَ الأخرى، لأنها تعرفُ أنّ الإدّعاءَ مُرٌّ مَذاقُهُ في أذواقِ الناس، وهو خليقةٌ تغطّي نَقصاً، كما أنّه لا ينسحبُ على مواصفتِها لأنّها مُثقَلَةٌ بأحاسيسِ الواقعيّة، وبشخصيّةِ البطلِ المُرتاحِ الى صِدقِه، وقيمتِه. 

لم يكن التّمثيلُ، مع كارمن لبّس، ملجأً للهروبِ بقَصدِ التخلّصِ من واقعٍ قليلِ الإرتياح، فالواقعُ، معها، ليس لَغزاً، أو ظلالاً مُبهَمَة، بالرَّغمِ من أنه يحملُ مضامينَ لا يَرشحُ لونُها، غالِباً، لِتُرى، فلمسةُ الواقعيّة انفراجٌ لمزاجِها، لذا، تعاهدَت كارمن، معها، وتواثَقا وتحالَفا، وكأنّ الواحدةَ منهما بذلَتِ المودّةَ والإخلاصَ للأخرى. والمُلفِتُ أنّ هذا الحُلولَ مَتَّنَ الصدقيّةَ في طلّاتِ كارمن، وأثبتَ أصالتَها من دونِ تنميقٍ أو صِباغ، وهي لم تزهدْ في التألّقِ والمهارة، فللتّمثيلِ، معها، مُؤَدّىً وحُسنُ عهد، ما جعلَها من أَملاكِ هذا الفنِّ في سِنِيِّنا، وربّما في الأَواتي كذلك.   

             

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *