محمد المليحي شغف اللون

Views: 497

حورية الخمليشي

محمد المليحي أيقونة فنّيّة، فهو منظّرٌ للفنّ ومثقّف وفنان. فرغم تكوينه الأكاديمي وثقافته العاليّة، لم يتأثّر بأي مدرسة من مدارس الفن الحديث. ولمدينة أصيلة المغربيّة مكانة خاصّة في نفس المليحي. أغدق عليها من بصماته الشيء الكثير، فأصبحت منارة ثقافيّة لاستقطاب المثقّفين والفنّانين بفعل مهرجانها الثقافي الكبير. فقد أسّس محمد المليحي مع صديقه وزير الثقافة السابق محمد بنعيسى “جمعيّة المحيط الثقافيّة”، ونظما معاً موسم أصيلة الثقافي.

عُرف محمد المليحي بموجاته بألوان الطيف التي لا ترسو على شاطئ. فمنح للموجة شكلاً ومفهوماً جديداً متفرّداً. كما ينفرد بمتوالياته اللونيّة التي وسمت أعماله. فالأمواج تحضر في معظم لوحاته. لكنها تتخذ في كل مرة أشكالاً جديدة ومختلفة. هذه الأمواج المستوحاة من شواطئ مدينة أصيلة، مسقط رأسه، والتي تنطق بلغة اللون. فالموجة عند المليحي تتبدّل وتتجدّد وتتغيّر بمجرد أن تفتح عينيك، هي موجةٌ واحدة بأبواب متعدّدة لا تستقرّ على حال ولا على شكل. جماليتها في بساطتها، وكثافتها متجاوزة للزمان والمكان. انفردت أمواجه اللونيّة برمزيتها الروحيّة التجريديّة. فهي مختلفة في لوحاته، وأعماله النحتيّة، وجدارياته، كما في ملصقاته. هذه الأعمال التي تحظى بتقدير عالمي كبير.

تتراوح ألوان المليحي بين الأزرق والأصفر والأحمر. ويبدو الخَلْق الفني في بساطة لوحاته وعمق موجاته اللونيّة التي لا حدّ لها. لم يتقيّد بأيّ مدرسة فنيّة. فالأشكال التجريديّة عنده تجمع بين الصَّنعة والجمال. أما لوحاتهفمستقاةٌ من عوالم متعددة، وخاصة من الموروث المغربي ومن تعدّد ثقافته. فهو يكتسب خبرة فنيّة كبيرة. وتحفل مدينة أصيلة بجدارياته وألوانها المشعّة والصاخبة أحياناً. فقد سجّل جمال مدينته الصغيرة في كتاب فوتوغرافي “لهيب تحت الرماد”، حياة في مشاهد بصريّة لهذه المدينة الصغيرة التي عشقها الفنانون والشعراء. وأصبح موسمها الثقافي قبلة لكل مبدعي العالم.

هكذا جدّد محمدالمليحي التراث المغربي العربي الإسلامي والأمازيغي الذي يحضر في المنسوجات، والزرابي، والحلي… وقد شقّ طريقاً وسطاً بين الأشكال المحلّيّة الأصيلة بطابعها العربي، والمغربي، والأمازيغي، والفن الإفريقي، والتجريد الهندسي، وتوظيف الرموز المستمدَّة من العمارة، والزخرفة الإسلاميّة، والوشم والتطريز. وعن اللون والموج كان حوارنا مع المليحي.

 

1.محمد المليحي”فنّان الموجة”. فمن درجة عشقك للموجة سمّيت ابنتك “موجة”. لكن الموجة عندك لا تشبه الأمواج. هي موجة متحرّكة على الدوام، وتمتاز بصوفيّة عاليّة وفريدة. ماذا تمثّل الموجة عند المليحي؟

الموجة هي حرفٌ في حد ذاته. حرفٌ يأتي من التاريخ القديم، ويتجدد في الشواطئ وأعماق المحيطات. الموج عنده علاقة بالماء وبالنار، وعنده علاقة في نفس الوقت بالرقص والموسيقى. الأمواج تنقل إحساساً فريداً.

الفن يجب أن يكون مبنياً على الحريّة للتعبير عن ماهيّات الأشياء، ورؤية الفنان لهذه الأشياء بروحيّة عاليّة. فالفنان يعبّر عن عوالم الشعور الباطني وعن عاطفته من خلال الألوان والخطوط والأشكال. الفن روحي بامتياز، وهو ما يخلق الانسجام العاطفي الروحي في كل عمل فني.

2.أنت فنان مجدّد خلاّق، يقول شربل داغر عن أعمالك بأنها ينبوع المتعة المتجدّدة ولوحاتك دائمة التجدد وفي تغير دائم. فهي عالم بذاته. ما سرّ هذا التجدّد والخلْق الفني في لوحاتك؟

نعم عنده حق في ما قاله. شربل داغر قويٌّ له ثقافة فنيّة كبيرة، ويمتلك حسّاً فنيّاً كبيراً موهبةً ودراسةً. تربطني به صداقة قديمة. فهو شاعر داخله رسّام. ليس الفنان مَن يقوم برسم اللوحات. لكن الفنان هو من يمتلك الحس الفني. فشربل داغر مزدوج الثقافة عربية وفرنسية. وقد تعرّف على التشكيل وهو دائماً يتابع عن كثَب أعمال التشكيليّين العرب. فأنا عندي وجهان: الوجه الأول هو أنني أعتزم التعبير بالشكل، علما أننا ننتمي لمجتمع لا زال فيه حكم العائلة قوياً وغريزة الفن تأتي في الطفولة، وبالخصوص في سن المراهقة. عادة الآباء لا يتركون أبناءهم يمارسون هذا الفن لأنهم يعتبرونه لعباً. وفي الحقيقة اللعب هو صقل للإبداع حتى في العِلم. فإذا كان الشخص لا يتوفر على غريزة اللعب سيكون محدود الإبداع. أما الوجه الثاني فهو أن نوع العمل الفني الذي أُنتِج لا يتقيّد بمذهب معيّن مع أنه مذهب تجريدي فيه تلوين وفيه حضور الهندسة لكن هذه الهندسة هي التي توحي لنا بعض الأشكال التي ربما نتغافلها لأنه فن تجريدي وليس فنا واقعيا.

3.يبقى التجريد سمة مميّزة لأعمالك؟

 نعم، فأنا أوحي بعض أشكالي وبعض أعمالي لأشياء تارة تذهب للتيارات الغربية وتارة أخرى تذهب إلى بعض الأشكال الهندسية والرموز التي هي عندنا في الأصالة العربية والإسلامية والشعبية (art populaire). فمثلا السيد (السيدة) الذي يصنع شيء من الخشب أو من الفضة أو من الجبص يصنعه وينتجه كأنه فن منبثق من ثقافته الغير المنحازة لا للإسلام ولا لغير الإسلام. فالمسلمون ينتجون عددا من الأشكال ومن الرموز في الفن. فإذا كان مسلما سنقول بأنه فن إسلامي. فهناك شكل من أشكال الفن الإسلامي وهو ما نسميه الفن الزخرفي أو الحُرُوفي مثلاً. لكن الفن الإسلامي لا يختصر على “التّفاهات” في التشكيل: يحدّد ويزن يقيس المثلث والمربع والشكل الثماني والمضلّع.

4.ما يعني أن الفن مرتبطٌ بالثقافة والحضارة؟

نعم، الفن له تأثيرٌ حسب الحضارة التي هو منبثق منها، مثلا الحضارة الآشورية أو الحضارة البابلية أثّرت في الفنانين العراقيين والسوريين، والذين لم يتأثروا بالفن الغربي الانطباعي. ويتضح هذا في رسومهم التجريديّة بطريقة أخرى أو بشكل آخر.

5.وعلى ذكر الزرابي ألاحظ أنك أنت والمهدي القطبي متأثران بالزربية المغربية؟

 أنا حاليا أنتج عملاً مستوحى من الزربية بل عبارة عن زربية. المهدي قطبي حَرْفاوي. عمله كله مستوحى من الحرف العربي من دون أن يكون هناك لفظ معيّن يشير إلى شيء ما إلا أن له رمزية خاصة وزخرفته مقتبسة من الحرف العربي. والحرف العربي يعطي حرية أكثر في كتابته، فالمهدي قطبي حروفه كلها رموز كالرموز التي نجدها في الحرف المصري القديم.

6.المليحي مؤسس مشارك لموسم أصيلة الثقافي الدولي إلى جانب محمد بنعيسى. إلى أيّ حد ساهم هذا الموسم في تطوير الحركة التشكيليّة؟

لموسم أصيلة الثقافي دورٌ كبير في الكشف عن مجموعة من التجارب الفرديّة المتميّزة. وقد استقطب العديد من الفنانين من مختلف بلدان العالم. الاستثمار في مجال الثقافة بما فيه الاستثمار في المواهب الفنيّة بخلق فضاءات للمواهب الجديدة.

إنّ الثقافة أساس كل تقدم وتطوّر. فهناك ارتباطٌ عضوي وعلاقة وطيدة بين الثقافة والتنميّة. والمشاريع الثقافيّة جزءٌ لا يتجزأ من المشاريع الثقافيّة. كنتُ من المؤسسين لمؤسسة منتدى أصيلة مع أمينها العام صديقي محمد بنعيسى عام 1978. هذا الموسم السنوي الذي أصبح قبلة للمثقفين والفنانين من كل أنحاء العالم. فمحمد بنعيسى خبير في قضايا الثقافة والفكر والفن، والعمل التنموي والاجتماعي. وموسم أصيلة مشروع ثقافي كبير للانفتاح والتحاور الثقافي. كان اهتمامنا كبيراً بالفن التشكيلي، وجداريّات أصيلة خير شاهد على ذلك.

7.كيف ينظر محمد المليحي إلى النقد الفنّي اليوم؟

التشكيل يتكلم بنفسه، فالعين هي التي ترى، ومع ذلك الألوان واضحة وكذلك الخطوط والأشكال، ففي نفس الوقت يبقى نوعاً ما سرّي يعني يتطلّب طريقة التفهّم خاصة. والذي أراه عند الأدباء والكتّاب العرب يبقى النقد الخاص بالتشكيل فقيرا جدا. ولا أدري ما السبب. فهل السبب هو مشكل التعميق أو التعمّق في اللغة هو الذي لا يترك ذلك الإحساس بتلك الرؤية للشيء المرئي لتقتبس منه ما يعطيك من أفكار. ونحن العرب لدينا نقصٌ فيما يخص النقد الفني باللغة العربيّة.

***

(*) من كتاب “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث”

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *