كنف اللغة

Views: 286

د. قصي الحسين

( أستاذ في الجامعة اللبنانية)

هذة المساحة الشاسعة من الكون. هذة المساحة الشاسعة من الأشياء، من الأسماء، من الجماعات من الناس.هذة المساحة الشاسعة من الماضي، من الحاضر، من المستقبل. هذة المساحة الضئيلة، من النقاط، من الحروف. هذة الأبجدية الضئيلة والشاسعة في آن، هي “اللغة”.

اللغة، بما هي كنف عريض لأم. بما هي كنف عريض لأمنا الأرض. أو بصيغة أخرى: للأم الأرض. بما هي كنف أمبراطورية العالم كله، ما ظهر منه، وما لم يظهر بعد.اللغة هي بمعنى آخر، هي كل هذا الكلام الذي قاله الناس، حتى اليوم. وهي كل هذا الكلام الذي خبأوه، حتى يقولونه في الغد.

اللغة هي لسان البشرية العملاق، الذي تتحدث به الطبيعة عن نفسها. ويتحدث به الناس عن الناس.عن أنفسهم، وعنها. هي ثغاء نعجة ولدت للتو. وهي زقزقة حسون الصباح، وحفيف الخريف على الأوراق، وخبطة نورج على بيدر. وسحابة من غبار خلف دواليب، تستعجل المرآب. وغبار كتب قديمة مرصوفة، مصفوفة. موصوفة. تريد الإنطلاق بأمان، كطائر مقيم أو مهاجر،إلى حيث تتمنى و تريد.

فتحت الأستاذة “يسرى مقدم”، شهيتي على اللغة، باكرا هذا الصباح. دون أن يقع ذلك في بالي. عنوان جاذب، هو عنوان كتابها الذي تسنت لي قراءته: “الحريم اللغوي”. ( شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.بيروت- شارع جان دارك، 2010: 200ص تقريبا).

لم تضيع الوقت، الباحثة يسرى مقدم، ذهبت فورا، إلى “أصل الحكاية”. حيث الرحم والولادة، والشهادات الطبية المزورة للولادات. وما يتصل بذلك، من ظهور”ناس القلق” لضياع الوضوح في الأنساب. عالجت هذة المشكلة. بل هذة الإشكالية التي رافقت المسيرة اللغوية، التي عاشت في كنف اللغة العريض. قالت إنها الخطيئة الأصلية/ الظل، للخطيئة الأصلية. حيث إتهمت المرأة، وحيث أخرجت مستضعفة من الدارين: دار الحياة ودار اللغة.تقرأ فصولها الخمسة عشر، فتشعر أن فمها مليء بالمرارة. أن قلبها يكاد يختنق من شدة ألمها من أكاذيب لغويين وكتاب، وروائيين وقصاص، وأصحاب سير.

الباحثة والأديبة واللغوية يسرى مقدم

 

تختنق الباحثة لما تجد في الكتابات القديمة، أو في الكتابات الجديدة، من تزوير شهادات الولادة للنصوص وللتفاسير وللشروح وللكتابات التاريخية التحليلية. تؤلمها الحملة تلو الحملة على المرأة، وكأنها “جنس عاطل” لا يصلح للصناعات ولا للإنشاءات، ولا لأعمال البنيان. ليس في اللغة وحسب، بل في جميع مناحي الحياة. كتبت على غلاف كتابها تقول:

” تقيد الأحكام النحوية الحريم اللغوي بضوابط ملزمة ترادف في إطلاقها، إطلاقية قانون الأب المقيد والمسيطر. يتكفلان معا لبسط سلطان الذكورة وترسيخ هيمنتها وفضائلها، ليتناظر بذلك واقع التأنيث والتذكير في اللغة وواقع المؤنث والمذكر في الإجتماع”. ثم تضيف: ” فكيف أمكن للفقه النحوي أن ينزلق إلى التمييز العنفي التفاضلي ما بين شقي النفس الإنسانية الواحدة”.

لا تخفي الباحثة والأديبة واللغوية، يسرى مقدم هواجسها، ولا قلقها على طمس الأنثى ودورها، في الحياة وفي الأدب وفي اللغة. فكل شيء مقلق لها. لأن المرأة لم تحفظ لها مكانة في سجل القيد. ولافيسجل القيم. تماما، كما لم يحفظ لها دور في الحياة. ولم يحفظ لها دور في متن اللغة. بل ظلت في الهامش، أو في كنف اللغة، لأن كنف اللغة الذكورية عريض. فهي بنظر الذكوريين، بطة عرجاء، ليست مؤهلة بطبيعتها، ولا بإمكانياتها، من أخذ أي دور رائد، لا على مستوى الحياة ولا على مستوى ظلالها اليانعة. نستمع إليها تقول في (تغريدة المؤنس: اللغة المنسية، ص29):

“ليس للغتنا، ولا لأي لغة في العالم، أن تحفظ صدقها، ما لم تكن لغة الحياة. وليس ثمة جدوى من أي فكر إنساني، تنوب عنه اللغة، ما لم يشرق الفكر بما يخصب الحياة بكامل ثنائياتها، لا بأنصافها، أو ما يشبه بالإنصاف الناقصة، (بحيث) يتصاغر وجودها إلى صور.”

ترى الأديبة و الباحثة، يسرى مقدم، أن نحو التأنيث والتذكير، إنما كثيرا ما يتورط، في سياسة الفرز التفاضلي بين شطري النفس الواحدة. تستشهد على ذلك بما جاء في القرآن: * خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها*. حيث مرد الذكورة والأنوثة كلها، إلى أصل واحد. وتتسائل الباحثة، لماذا هذا التحامل إذن، على الأنثى، ما دامت والرجل من نفس واحدة. ولماذا أمعنوا بها تهوينا، على كل الصعد. ولماذا لا تصير إبداعات المؤنث، إنسحابا على ذلك، أيا يكن جنسها، تأهيلا يؤصل، لوجود حر، سوي طليق، من كل قيد، مبرأ من التفاضلية العمياء، ومن كل نوع من أنواع  الانتقاص: جسدا وذاكرة ولغة.

تخلق يسرى مقدم في نصها لحظات إستثنائية، فيكون “الحريم الغوي”، كما عنونت، خطابات خاصة، ندرك أنها من عالم آخر، لا ينتمي إلى هذا العالم اللغوي الذي طبعنا بطابعه كسيد، وبطريرك، وسلطان، و”متفيهق”. لكنه لوهلة ما يتجول داخله، ويسمي أمكنته وحضارته. فمهمة اللغة عند الباحثة يسرى، أن تأخذنا بعيدا، فنتصعد معها، من طبقة إلى طبقة، ومن نص إلى نص، ومن شاهد إلى آخر، ومن محلة إلى أخرى، من جملة لأخرى، ونحن ندرك أن ثمة عودة، لكنها ستغير الكثير. لأن الواقع غير أكيد، خلاف الحقيقي. ليس إلا حكما، أو حلما بطريركيا، ذكوريا، يفرض نزوته على أنثى اللغة، ويضعها تحته، ويجعل الحريم اللغوي، يعيش في الهامش، أو في الكنف، لا فرق.

فالباحثة، تشبع جملها بالإيحاءات. والقارئ، سرعان ما يتساءل، كيف له أن يربطها بالإيقاع. ولكن المشكلة في القارئ، لا في جمل “الحريم اللغوي”، لأنها قابلة للربط. فلا يوجد عندها، المنطق الذي يقول بسبب ونتيجة، وإنما المشكلة في الإستدلال، على إقصاء المرأة من تاريخ اللغة، وجعلها تعيش في الهامش، لا في متنها.

يتقاطع “الحريم اللغوي” مع شخصية السارد، ومع شخصية القارئ، ولكن سرعان ما يتبين لنا، أن ذلك هو الجمالية بعينها، الذي يضع نصوص الباحثة، في حالة ذلك الإستثناء، أو في حالة ذلك الجنون الذي مارسته الذكورية على اللغة. وهي إذ تتألم للحاصل الأدبي واللغوي والفقهي، فلا تجعلنا “نبكي على ماض تولى”، ما دام العادي مثلنا لا يبكي على الإستثناء، الذي أخرجناه إلى الهامش.

ماذا يمكن للباحثة أن تفعل بالشخص الذي يخرج عن قواعد الجماعة، ومن تعاليم محددة ومرسومة. هناك وجود لفلسفة أخرى لديها، تتحدث عن كيف ننظر لأنفسنا، ونحن في متاهة الذكورية الضائعة، بين الإتباع و الإبداع. وهي لذلك واضحة كل الوضوح: وضوح الإستثناء الذي تريد لنا أن نتلمسه في نصوصها وهي تبعثر التركة الثقافية البطريركية ولا تريد أن تعيد بناءها، بقدر ما تشير، إلى مكامن الإضرارباللغة، من خلال تهميش المرأة، بجميع معادلاتها الحياتية المعاشة، على جميع الأصعدة.

تتسع رؤيا الأديبة يسرى مقدم، في كتابها “الحريم اللغوي”، لتشمل ثقافة لغوية وتاريخية وفلسفية ودينية. ولا تضيق عنها، كما نرى، بل تفيض في محيطات أخرى، وإن ظلت خارج العبارة. إذ لا تذهب لتقصي التجانس، ولا المواءمة ولا الملاءمة، لبحثها، بل أقصى غايتها، الإستدلال ولو من خلال علم الأشارة إلى الغبن الذي لحق بالمرأة ودورها، من خلال، إلحاقها بالرجل وبدوره وإرادته، وسلطته وسلطانه، أينما كان.

هناك أمكنة مختلفة، وأزمنة مختلفة، تجمعت لدى يسرى مقدم الباحثة، مثل فسيفساء جميلة. وهي بالتالي تهدم منطق التراتب والتدريج، حتى تتمكن من إعطاء فكرة واسعة، عن عالم كان يمكن أن تبنيه المرأة، حضورا حرا سيدا مثل الرجل. وهو عالم بنته يسرى، أو ساعدت في الكشف عنه، كشخصية إستثنائية، تحلم بذلك، قبل أن تكتب العالم. لأن العالم حلم كبير، ليس عند الرجل وحده، بل عند المرأة أيضا، دون أن تنقص عنه بحرف.

يسرى مقدمتؤسس لنظرية شاملة، تؤثث اللغة والسؤال عن كل شيء يتصل بها. وعن كل شيء يتصل بدور المرأة فيها، أو في غيرها من جنبات الحياة. إننا إذا إزاء نص، منفتح على التأويل والقراءة والسؤال. إنها مسيرة يسرى، للتجوال والإكتشاف، لا للإثبات، بل للغوص في داخل المنظومة، لإستخراج معان أخرى لذلك.

تحت عنوان: (قسمة القهر، ص97)، تقول الكاتبة: لا شك إذا، في أن الضعف نتيجة الإنفصال الثأري، كان قدر الإثنين( الرجل والمرأة). كذلك الفرعية والنقصان، بالمعنى الذي يجعل الذات “لاشيء” من دون الآخر المختلف. وتتابع: “هذا اللاشيء الذي يخيف ويضعف وينقص ويحرض على إستعادة وجود غير منقوص، لا يكتمل إلا بإجتماع الفرعين في الجسد الأصلي، يتحقق فيه عناق القسيمين، لينجبا معا نسل الحياة”.

برأي الباحثة، إن صفات القوة والسيطرة، صارت لصيقة الذكورة. وما كانمستغربا، أن تتأصل للمؤنث، صفات الضعف والإذعان، في السلوك وفي الطباع٠ وهي ترى إن العلم الحديث، إنما يسفه، هذة المعادلة الجانية، فتستشهد بما كتبته “ميليسا هافيز” عن جنوسة الدماغ: “على الرغم مما يبدو عليه معظمنا، على أنه إما ذكر بوضوح، وإما أنثى بوضوح، فإن كلا منا فسيفساء، معقدة من السمات الذكرية والأنثوية”.

ثمة إذا، ما يعوق أيضا المؤنث الروائي من جانب آخر، تقول الباحثة، ويعجز سردياته عن تلبية الوظيفة التأهيلية، وذلك حين تخل السرديات بشرط الإختلاف والخصوصية. وهي تجد أن السائد في المجتمع هو الذي أنهك الأنوثة وأستخف بها.وأن ما راكمه المؤنث الروائي، ليس أكثر من سرديات، تلهج بالصراخ والشكوى والتألم والتظلم، أو تلوح بعصيان يؤدي إلى الإنتحار.

تنتهي الباحثة يسرى مقدم إلى القول إذا:إن الذاكرة الجمعية، لا تزال تصف الأنوثة، مثلما توصف الأقنعة. وهي تترك الحقيقة محجوبة ومتواريةلا يرى منها إلا ظلها المخبئ في عباءة الذكورة.ولهذا هي تحتاج إلى الكثير من الحفر عليها، بحيث تصلبكل شجاعة، إلى حرمة المجازات، وتميط اللثام عنها. وذلك إستنقاذا للغة الدفينة الموؤدة، منذ تاريخ مضى، ولم تبذل مثل تلك الجهود حتى الآن، خشية سلاطين الممالك، في اللغة والدنيا والدين.

“الحريم اللغوي”، إنما هو في الواقع، “كنف اللغة” الذي كان للباحثة يسرى مقدم أن تستطلعه، وتقدم في مباحثه الخمسة عشر التي قدمتها، أدلة جريئة على ظلم تاريخي أثيم، لحق بالمرأة، وأدى إلى أذية وتشويه، ومعادلة خاطئة في البناء اللغوي والإنساني بشكل عام. والنصوص التي بين يدينا، تجعلناأكثر إقبالا على هذة التجربة الرائدة في الحفر على المعنى.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *