مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 15: أ. د. سمر جورج الديوب- سوريا: مرداد (1) لميخائيل نعيمة

Views: 754

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في ما يلي  الورقة الخامسة عشرة: أ. د. سمر جورج الديوب- سوريا: مرداد (1) لميخائيل نعيمة.

 

 

 (ملاحظة: تقدّم هذه الورقة انسجاماً مع فكرة تأسيس نهضة اغترابيّة ثانية، تقوم على الفكر، كرافد مهمّ من روافد الأدب الإنسانيّ، وكنموذج لأدب اغترابي متعدد الروافد والمواضيع)…

 

وقع الاختيار على كتاب “مرداد” لنعيمة -تحديداً- لاشتماله على بعد صوفيّ عالٍ، وعدم نيله الحظ الوافي من الدراسة النقديّة، وتأتي هذه الورقة دعوةً إلى الرجوع إلى أدبه رجوعاً يناسب فكره الصوفيّ الشرقيّ الذي وجدنا فيه تقاطعات مع معطيات الفيزياء الحديثة.

1- الفيزياء الحديثة والأدب الصّوفيّ

يجمع الفيزياء والتصوّف أنّ كلاً منهما شكل من أشكال المعرفة، ويلتقيان الأدبَ الذي يصبُّ في المسار ذاته، وتُشتقّ الفيزياء من الكلمة اليونانيّة “فيزيق” φυσική، وتعني محاولة رؤية الطبيعة الجوهرية للأشياء كلّها، وهذا هو هدف الصوفيّ، والفيزيائيّ، والأديب(2).

إن المعرفة المطلقة التي يسعى إليها الفيزيائي الكموميّ (3) ، والأديب، والصوفيّ خبرة غير عقليّة، تنشأ عن حال تأمليّة، والكموميّة والأدب عالم من الغرابة، لا يمكن فهمهما بالمعرفة العقليّة وحدها، فهنالك عنصر حدسيّ في العلم، وعنصر عقليّ في الأدب الذي يشتمل على أبعاد روحانية، وصوفية بدرجات مختلفة. وتتجه النظرة العالمية الجديدة إلى وحدة العلوم كلّها: الإنسانية وغير الإنسانية، وتغدو الفيزياء الحديثة جزءاً من نظرة عالمية جديدة، وكذلك الأدب، وقد تأسست هذه النظرة على الوعي الروحي، فيمكن أن يظهر الأدب في الفيزياء، والفيزياء في الأدب، ويمكن أن تنسجم أفكارهما

مع كثير من الأفكار الروحانية. وثمّة علاقة بين الروح والمادّة فيزيائياً، وقد رأت الفيزياء الكموميّة أنّ الوعي والروح موجودان في كلّ مكان يعدّ فراغاً في الكون، فكلّ شيء مكوّن من ذرّات، وتتكوّن الذرّات من جزيئات ذريّة فرعية، هي الطاقة، وأجسادنا -تبعاً لذلك- شكل مكثّفٌ للطاقة، وما الجانب الماديّ الذي نراه ونستشعره إلا جزء من الكون يتمّمه الجانب الروحيّ.

إن للروح فيزياء خاصة بها تماثل فيزياء المادة (4) وقد توغل الإنسان إلى بنية الذرّة، ووجد فيها حركات اهتزازية تبعث طاقاتها إلى المحيط الكوني، وتتبادل الطاقة مع كلّ ما يحيط بها، ترسل وتستقبل، وهذه الاهتزازات هي الطاقة الكونية، تمدّ المخلوقات بالطاقة، وعالم الروح عالم غير منظور بحواسنا، ويمكن أن ندرك شيئاً من هذا العالم بمعطيات الفيزياء الحديثة، فالإنسان مادة، وروح، وبينهما علاقة وثيقة، وقد أثبتت فيزياء الكمّ أن الروح تبقى بعد الجسد، وأن الوعي البشريّ الذي تمثّله الروح يعدّ نوعاً من الكيان المعلوماتيّ على مستوى الكمّ (5)

وتنضح مفاهيم الفيزياء الحديثة بتماثلات مدهشة مع الأدب بعامّة، والأدب الصوفيّ بخاصة، فقد سعت الفيزياء والتصوف إلى خلق انسجام في مكونات الوجود، ورأت الفيزياء الحديثة العالم رؤية قريبة جداً من الهندوسية، أو البوذية، أو الطاوية (6)،وتقول فيزياء الروح إننا نتعرّف إلى الله الكامن فينا عبر التعريف الكونيّ: التعريف الكمّي للذات فكيف تجلّى البعد الروحاني في شخصية مرداد: معلّم الحكمة في الرواية؟

2- كتاب مرداد والبعد الروحاني

تمثّل شخصية مرداد انتصاراً للجانب الروحاني على الجانب المادي، فقد قدّم مفهوماً للمحبة، وتحدّث عن ثنائيات الخير والشرّ، والروح والجسد، فهدف إلى التجديد المعرفيّ للإنسان، فروايته رواية وعي، يختلط فيها الوعظ بالمحاورة والتأمل والحكمة، ويظهر مرداد شخصية لا تخضع لقانون الزمان والمكان، إنّه من بُعد أعلى؛ لأنه فكرة، إنه آتٍ في مهمة دقيقة، حين ينجزها يغادر إلى حيث لا يعلم الآخرون، فيقدّم نعيمة صورة مأمولة لإنسان جديد، وعالم جديد

يتجاوز مفهوم الزمان والمكان الفيزيائيَّين، والأنا والنرجسية، ويعدّ كتاب مرداد القمة في تفكير نعيمة الفلسفيّ، بسط فيه أفكاره عن وحدة الوجود، ومفهوم الزمان، والأبعاد، والارتقاء فوق البُعد الفيزيائي الذي نعيش فيه، وقد كتبه بالإنكليزية، ثمّ تولّى ترجمته إلى العربية بنفسه، وصوّر غير الواقعيّ كأنه واقعيّ. وقد اتخذ من شخصيّة نوح عليه السلام ترجمان أفكاره، وجعل من أفراد أسرة نوح نماذج تمثّل مختلف النزعات البشرية بما تشتمل عليه من ثنائيات الشهوة والطهارة، والكفر والإيمان، أما اسم مرداد في الرواية فهو اسم ملك من الملائكة يمثّل صفاء الروح، ونفاذ البصيرة، وتحرّر الجسد من عقال المادة، فقد غدت ذاته قادرة على تجاوز قيود الواقع.

وتتمثل فكرته الأساسية في أن طريق الحقيقة حافل بالصعاب، والعوائق الجمّة، ولا يستطيع أن يتغلّب عليها إلا من تحرّر من أهوائه ورغباته الأرضية؛ لكي تتحرّر ذاته، وتتّحد بالذات الأزلية الأبديّة الكاملة.

ويمكن أن نعدّ شخصية مرداد ترجمة ذاتية لكفاح نعيمة المضني، وطريقه الشاقّ بحثاً عن المعرفة التي أوصلته إلى نظرته الكونيّة القائمة على وحدة الوجود، والوحدة مع الذات الأزلية. وكان مرداد التاسع الذي دخل إلى الفلك مع نوح وعائلته، وقاده في الطوفان، ولم يره أحد سوى نوح، ويعود ليدخل الفلك بعد آلاف السنين متحدياً سلطة رئيسه شمادم، فيكون معلم الحكمة

لرفاقه السبعة الآخرين، ويَظهر علناً، وفي الوقت نفسه يعمل في العالم خفية كما أخبر شمادم بعد أن صعد إلى الجبل متجرداً من كل شيء بمشقة كبيرة.

لقد حصل مرداد على معرفته بالحدس، لا بالتفكير، نظر إلى داخله، وراقب ذاته، فأبصر ما هو فوق واقعه، ومن أراد أن يسلك سبيله فعليه أن يخضع للتدريب مدة طويلة، لأنّ المعرفة عنده تقوم على التجربة، وقد أراد إيصال تجربته، لا وصفها، فلماذا وسم الرواية بـ “كتاب مرداد”؟

3- مصطلح الكتاب والبعد الصّوفي

الكتابة عند الصوفية ضرب من ضروب العلم بالمعنى، وقد ورد “كتاب” في مؤلفاتهم بوفرة، ككتاب المواقف والمخاطبات للنفّري، وكتاب الفتوحات المكية لابن عربي، ويأتي الكتاب عند ابن عربي في المعنى الموجود في الأصل “كتب” بمعنى أوجب (7)، وتأكيده مصطلح “كتاب” في العنوان يحيل إلى أثر صوفيّ واضح، وإلى انتساب هذه الرواية إلى إرث ثقافيّ، ويعني ذلك أنه أرسى نوعاً كتابياً خارجاً عن التصنيف، ويمكن أن نعيد فكره إلى ما يُعرَف بالفكر الثيوصوفي، ويعني الحكمة الإلهية، أو المعرفة الإلهية، أو العلم الإلهي، ويرى أصحاب هذا الفكر أن أصدق المعارف لا تأتي من العقل والحواس، بل من قوة الإنسان الروحية التي تصفو بتناسخ الأرواح، والمعرفة. وتعدّ وحدة الأشياء كلّها أولى التماثلات بين الكموميّة وكتاب مرداد.

4- فيزياء الروح ووحدة الأشياء كلّها

مرداد -لغة- هو العائد إلى الشيء (8)، وفي الرواية هو صوت الإنسانية والإيمان الصاخب والهامس، والذي أتى من بُعد أعلى، وحين أنجز مهمته عاد وارتقى إلى ذلك البُعد، إنّه شخصيّة خيالية في واقع افتراضي مع ثمانية رهبان في معبد على سفح جبل الفلك الذي بناه سام بن نوح؛ ليكون أنموذجاً ثابتاً لسفينة خلاص البشر من الطوفان، وقد انحرف شمادم الراهب إلى الماديات، فأضحى مرداد معلّمهم، ونجا من محاولات شمادم للتخلص منه.

يوضّح نعيمة في نهاية الرواية أنَّ الفلك هو أجسادُنا، والربّان إيماننا، والطوفان نفوسنا المضطربة بأمواج النزوات، وانطلق من أنّ الكون عالم موحّد متجانس إلى أقصى حدود الألفة، فالإنسان ابن العالم الأوسع، لا ابن الأرض، ذلك الجُرم الصغير، والإنسانية نقطة في بحر الكون:

“مرداد: فالكون إذ يعمل عمله إنما يتمّم عملك أيضاً، وأنت إذ تعمل عملك إنما تتمّم عمل الكون كذلك… اذكروا أن الكلمة واحدة، وأنكم كمقاطع في الكلمة، لستم في الواقع غير واحد إذ ليس من مقطع أنبل من مقطع، أو أكثر أهمية منه… وأنتم لا بد لكم من أن تصبحوا كلمات من مقطع واحد إذا ما شئتم أن تتذوّقوا النشوة التي تفوق كلّ نشوة، نشوة محبة الذات التي هي محبة لكل الناس ولكل شيء”(9)

لا تُنال هذه النظرة الكليّة لدى مرداد إلا بالتأمّل العميق، فحين يعرف أناه يعرف الكون؛ لأنّه جزء من الكون يحمل ترنيمة الحياة كلّها، ويكون التحرر من الأنا الفردية بالتخلي عن الإرادة الجزئية إلى الإرادة الكليّة، والذات الصغرى عنده معبر إلى الذات الكبرى، ويكون ذلك بنكران الذات، وتحمّل المشاق والآلام، ولكي يصل الإنسان إلى الاتحاد بالذات الكبرى لن يسلك طريق العقل، بل المحبة، والرؤيا.

وقد أثبتت الفيزياء الحديثة أن لا شيء يتمتّع باستقلال، وأنّ هنالك كونيّة من العلاقات التي تقوم على الاعتماد المتبادل:”كلّ ما في الكون متداخل بعضه في بعض، فالكون كلّه في الإنسان”. وهي نظرة ناجمة من طبيعة الأشياء الكونيّة، وليست منزلقة عليها، أو قادمة إليها من عالم مستقلّ عن العالم الفيزيائيّ (10)

يرى مرداد -كالفيزيائيّ الكمّي (11) – الأشياء متواشجة، وتمثّل مظاهر، أو تجليات للواقع المطلق ذاته، فالانفصال وهم، ولكلّ شيء سمة التغيير الدائم، ويُظهِر الكون واقعاً واحداً روحياً ومادياً معاً، فالعالم نظام من العناصر غير المنفصلة، والمتداخلة، والمتحركة، والإنسان نفسه جزء

مكمّل لهذا النظام. ويدعم العلم بشكل مقنع نظرية العالم الأحاديّ Monistic فيشتمل الجزء على خصاص الكلّ، وكلّ شيء في أيّ شيء، الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة. والفكرة القائلة إنّ كلّ جُسيم يتضمّن الجُسيمات الأخرى فكرة صوفية، فيرى الصوفيّ العالم في حبّة رمل، ويرى الفيزيائي العالم في هاردون، ويرى مرداد العالم في ورقة شجرة.

5- كتاب مرداد والأبعاد الفيزيائية

يرى الفيزيائيون الكموميّون أنّ الكون متعدّد الأبعاد، وأننا نعيش -فيزيائياً- في البُعد الثالث، بُعد الزمان والمكان، الطول والعرض والارتفاع، أما البُعد الرابع فهو بُعد الزمن، ولا يمكن رؤيته، بل يمكن الشعور به، وهو نسبيّ بخلاف الأبعاد الأخرى، ويتكوّن البُعد الخامس من الأبعاد السابقة مجتمعة بشكل غير مقيّد، يمكن الانتقال بينها في الاحتمالات والاتجاهات كلها (12)، وفي البُعد الخامس يُرفع الحجاب، ويعدّ البُعد الثالث بُعد الثنائيات الضدّية، فلا يمكن أن ندرك شيئاً إلا مقترناً بضدّه، ويجمع المتضادّين علاقة توازٍ، ويوصل المتوازيان إلى التكامل في بعد أعلى (13) .

1- 5- البُعد الثالث وعالم الثنائيات

تحدّث مرداد عن الثنائيات في البُعد الذي نعيش -نحن البشر- فيه، ودعا إلى العبور وراء عالم المتضادات، فالمتضادّان جانبان للواقع نفسه، وجزءان للكلّ المفرد: “مرداد: إنّ عيونكم لمحجّبةٌ بحُجب كثيرة، فأنتم ما نظرتم إلى شيء إلا كان ذلك الشيء حجاباً لكم.. فما الأشياء بأشكالها وأنواعها سوى حجب وقُمط تحجّبت الحياة، وتقمّطت بها، فكيف للعين التي ليست في ذاتها غير حجاب من حُجب الحياة، وقماط من قمطها أن تدلّكم على أكثر من الحجب والقُمط؟… إنّما تستطيع العين أن تحجب الأشياء، ولكنها لا تستطيع أن تميط عنها الحجب.. أما إذا شئتم هتك الحجب فعليكم بعين غير العين المسلّحة بالأهداب والجفون والمظلّلة بالحواجب.. لذلك لا تنظروا بالعين، بل من خلالها كيما تبصروا كلّ ما وراءها” (14).

إنّ العلاقة بين الطرفين المتضادّين علاقة توازٍ، لا تناقض في بُعدنا الثالث، فالطرفان لا يلتقيان، ويحمل كلّ منهما شيئاً من خصائص الآخر (15)

والإنسان الكامل -على وفق كلام مرداد- هو الذي يجري توازناً بين الضدّين، ونجد هذه الثنائية في عالم ما دون الذرّة، فالجُسيمات قابلة للتحطيم، وغير قابلة للتحطيم في الوقت نفسه، ولها طبيعتان: موجية وجُسيمية، وإحدى الطبيعتين تتمّم الأخرى 16 ويستطيع مرداد اختبار البُعد الأعلى بالتأمّل العميق، فيختبر عالماً كليّاً تتوحّد فيه المتضادّات في كلٍّ عضويّ.

والثنائية عند مرداد فرع من الأحاديّة، والكون أحاديّ روحانيّ، وحين يعي الإنسان نفسه يتجاوز الوعي الحقيقيّ للثنائيّة، فالحدس والإيمان والخيال سلّم نعيميّ للوصول إلى المعرفة متجاوزاً وهم الثنائية (17)، ومع أنّ الإنسان سجين البُعد الثالث يجد مرداد أنّ سجنه محدود؛ لأنه من

جوهر الله، “ألا افركوا أعينكم، واستيقظوا، فأنتم أكثر من تراب، وقسمتكم من الوجود أكثر من أن تحيوا وتموتوا وتنسلوا طعاماً وافراً لأشداق الموت الذي لا يشبع، إنّ قسمتكم هي التحرر من الحياة والموت، ومن الجنة والجحيم، ومن كلّ أصناف المتناقضات التي تولّدها الثنائية، والتي لا تزال في نضال لا رحمة فيه ولا هوادة”; وهو تجلّي الله في عالم المادّة؛ لذا أكثر من الحديث عن المحبة الخلاصية، فيحيا الإنسان ليعرف المحبة، وهي مصدر الوصول إلى الأحاديّة، والمحبة شموليّة تعني الانعتاق من أي رباط، في حين أن الحب يرتبط بالألم، فلا تقاس المحبة الحقيقية بالمحبّة البشرية؛ لأنّها غير مقيّدة بزمان ومكان.

2- 5- الارتقاء في البعد

يتحقّق الخلاص عند مرداد/ نعيمة بالارتفاع فوق عالم الثنائيات، العالم المادي الحسيّ المتمثّل في ثنائية الأنا والآخر، فيغدو جزءاً من جوهر واحد؛ ذلك أنّ الإنسان قد تجمعت فيه العوالم كلّها: “مرداد: آه يا ميكايّون! إنه لأيسر لك أن تزجّ نسراً في قشرة البيضة التي نقف منها من أن تكبّل مرداد بسلاسل الناس، وتحجبه بحجبهم، فأيّ اسم عساه يستطيع أن يدلّ على إنسان لم يبقَ بعدُ “في القشرة”؟ وأيّ بلد عساه أن يسع الإنسان الذي يسع مسكونة؟ (18)

وجب إزالة الحجب لتحقيق الخلاص، والارتقاء فوق عالم الثنائيات الذي يحكمنا، وإدراك أنّهما أمر واحد في النهاية “الظلمة والنور، والخير والشرّ”، ويكون الخلاص من ثنائية الظلام والنور مثلاً بقبول الطرفين، وتفريغهما من التضاد، حينئذ ينمو الوعي المتسامي عنهما، وحين أنجز مرداد مهمته ارتقى في البُعد، وغاب؛ لأنه من بُعد أعلى.

وتلتقي أفكارُ مرداد أفكارَ فيزياء الكمّ، فثمة أبعاد متعددة في الكون، وفي البُعد الخامس يمكن للشيء أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت نفسه: “إنه لأيسر لك أن تزجّ نسراً في قشرة البيضة التي نقف منها من أن تكبّل مرداد بسلاسل الناس، وتحجبه بحجبهم”، وقد أثبتت ميكانيكا الكمّ أنّ الالكترون يظهر في أكثر من مكان في وقت واحد (19) وأنّ الجُسيمات دون الذرّية قادرة على ذلك، فلها طبيعتان: موجيّة وجُسيمية، ومنها يتكوّن جسد الإنسان، وإذا كان لهذه الجسيمات طبيعتان تغيّرت الحالة بحسب تغيّر من يقوم برصدها (20). ونعرف طبيعة المادة المرصودة بعد الرصد أكثر مما نعرفه قبل الرصد؛ لأنّ الجُسيم يتخذ إحدى طبيعتين حين يشعر برصده،

فالرصد تشويش؛ لذا يبدو عالمنا مؤلفاً من الوقائع وأضدادها معاً، فحين نرصد الخير نرى الخير، أو ضدّه، ولا نرى الاثنين معاً؛ لأن ضدّه يخفى علينا، وحين نرتقي في البُعد يبدو لنا ما كان خفيّاً، فالبعد الأعلى -كما يؤكد مرداد- توسيع للرؤية بالحدس، فهو نافذة تسمح للإنسان برؤية جزء صغير من الكون، والعقل سيد الماديات، وبالارتقاء ندرك ما لا يدركه العقل.

5-3- الزمان المرداديّ والزمان الفيزيائي

قدّم مرداد فهماً خاصاً للزمان يعلو على مفهومه في بُعدنا الثالث، يتخذ شكلاً منحنياً في دوائر، وهو ما يلتقي بشدة معطيات فيزياء الكمّ: “مرداد: إنّ كلّ الزمان لعمر واحد -يا رفاقي- ما من وقفات في الزمان، ولا ثبات، ولا فيه

فنادق تستريح فيها القوافل من عناء السفر وتناول المرطبات والمنعشات. إنما الزمان دوام يلتوي على ذاته، مقدّمته مقطورة أبداً بمؤخّرته، فليس فيه ما ينتهي ويندثر، ولا فيه ما يبتدئ وينتهي. به -الخيال- وحده تعرفون أنّ كلّ ما تبصرونه من تقلّب الأشياء وتغيّرها ليس سوى خفّة يد وخديعة.. تلكم الحواس لا تتناول من الأشياء إلا ما كان ضمن زمان ومكان.. واحد هو سبيل الموت والحياة على دولاب الزمان أيّها الرهبان، لأنّ الحركة في دائرة لن تبلغ يوماً منتهاها، أو تصرف قواها، وكلّ ما في العالم من حركات ليس سوى حركات في دوائر. (21)

ليس الزمان الذي يقدّمه مرداد/ نعيمة زماناً فيزيائياً، بل هو ميتافيزيقيّ، فلا تعرف الحياة الانتهاء؛ لأنّها استمرار، ولم تبدأ حياتنا ساعة وُلدنا، ولن تنتهي ساعة وفاتنا، فزمانها سابق لوجودنا الأرضي لكنّ الإنسان يجهل غاية الحياة، ويتوهّم أنّ الموت نهاية، في حين أنّ الحياة والموت متكاملان. وفي الزمن عنده يتداخل الماضي بالحاضر في الآن، فتتحرك ذواتنا بما عشناه سابقاً، وفي كلّ تقدّم نحرز إكمالاً جديداً للطريق التي سلكناها من قبل، وسيظل الإنسان مخفقاً في وصل ماضيه بحاضره، والإفادة من تجاربه السابقة حتى ينعتق كلياً من أدران المادة، ويرقى إلى الروح النقيّة.

ويؤكد أنّ الحياة وإن تراءت لنا في خطوط مستقيمة، أو ملتوية لا تسير في الواقع إلا في دوائر، فتتفرّع الحياة حول الإنسان حاملة مظهر الله في كلّ منها، وتعدّ الدائرة أكمل الأشكال الهندسية، لا يوجد فيها بداية، أو نهاية .

إنّ الزمن -فيزيائياً- زمن ملتوٍ؛ لأنّه لا نهائي، يسير في كلا الاتجاهين خارج إطار البداية والنهاية، وسيستمر إلى الأبد من ماضٍ لا نهائي إلى مستقبل لا نهائي (22)، ويعني ذلك تشابهاً بين الرؤيتين: النعيمية المرداديّة والفيزيائية، فلم يأت الكون من العدم المحض، وهو في حال خلق مستمرّ، ففي كلّ آت موت وولادة؛ لذا ينظر مرداد إلى الزمان على أنّه زمان سائل غير مسطّح، فقد وُجد، وسيظلّ موجوداً، ويرى العلماء الفيزيائيون أن كلّ ما نراه في عالمنا محدّد بغشاء Membrane ثلاثيّ الأبعاد، موجود في كون أكثر أبعاداً، وتفترض بعض النظريات الفيزيائية الحديثة وجود أبعاد إضافية حقيقية ملتفّة على هيئة دوائر صغيرة للغاية، لم يتم اكتشافها.

6- الإيقاع الكونيّ بين مرداد والكموميّة

في نظرة صوفيّة يرى مرداد أنّ الكون ذو إيقاع راقص يهتزّ، وقد سبقه ابن عربي فقال: السماع منشأ الوجود، فإنّ كلّ موجود يهتزّ: “مرداد: إنّ دولاب الزمان ليدور، أما محوره فهادئ أبداً، الله هو المحور في دولاب الزمان،

الذي تدور عليه سائر الأشياء في الزمان والمكان، أما هو فلا يدور، ولا يعرف زماناً أو مكاناً، من كلمته تنبثق الأشياء كلّها… في المحور سكينة أبدية، وعلى الإطار حركة صاخبة… ارحلوا من إطار الزمن إلى محوره، وأريحوا أنفسكم من غثيان الحركة. (23)

وفي الفكر الصوفي ظواهر العالم تجليات للمطلق، وهو تجلّ ديناميّ، فثمّة حركة، وتدفّق طاقيّ، وتغيّر فالله هو المطلق، الساكن، الوحيد، وما عداه كلّ شيء يتحرّك، وتُفهم خصائص عالم ما دون الذرّة في السياق الديناميّ الذي يعني الحركة والتداخل والتحول.

إنّ المادة المكوّنة من عالم متناهٍ في الصّغر لا تعرف البنية الأساسية، وهي في حركة دؤوبة، فالطبيعة ليست جامدة، والسكون موجود في الحركة، وهي نظرة صوفية، فالأشياء -كما يؤكد مرداد- دائمة التغيير، ولا مكان للأشكال الساكنة، أو لأي جوهر ماديّ (24) وترى نظرية الأوتار الفائقة في الفيزياء أن لا شيء في الكون سوى الموسيقى، فليست العناصر الأولية للكون جُسيمات نقطيّة، بل هي فتائل أحاديّة البعد، تشبه الحلقة المطاطية متناهية الصغر، تهتزّ جيئة وذهاباً، ولكلّ وتر عدد من الأنساق الاهتزازية، وكلما كان النّسق الاهتزازيّ أكثر هيجاناً زادت الطاقة (25)

7- المحبّة والقوّة النّوويّة

أكّد مرداد المحبّة سبيلاً للخلاص، وهي ناموس الله، وصانعة العجائب، ويحيا الإنسان ليعرف المحبة، فهي المصدر والطريق للوصول إلى الأحاديّة، فيندمج المحبّ في محبوبه: “مرداد: المحبّة تجمع، والبغض يفرّق، إنّ هذه الكميّة الهائلة من الصّخر والتراب المعروفة بقمّة المذبح لو لم تكن ممسوكة معاً بيد المحبّة لتطايرت شظايا في الفضاء، حتى أجسادكم -على وهنها- ما كانت لتتفكّك لو لكان لكم أن تحبّوا كلّ خليّة من خلاياها محبّة متوازية قويّة خالصة ( 26).

إنّ المحبّة التي يدعو مرداد إليها لا تتجزّأ، ترتقي بالإنسان، فيصل إلى قدسيّة السعادة، وفي المحبّة تنزيه للإنسان عن الشهوات، حين يتغذّى الحبّ بالطهر الجسديّ، والفناء الروحيّ، فينعتق من كلّ رباط، المحبة اتحاد، وكأن الإنسان والكون وحدة لا تنفصم؛ لأنّ المحبة وعي.

إنّها قوّة الجذب الالكتروني بين النّواة الذريّة ذات الشحنة الإيجابيّة، والالكترونات ذات الشحنة السلبية، إنّها طاقة المحبّة الخلّاقة، فيبدو كلّ شيء في الكون شبكة ديناميّة من النماذج الطاقيّة غير القابلة للفصل.

والتراب -مثل عالم ما دون الذرّة- لا معنى له بوصفه وحدات منفصلة، يتحقّق معناه بالاتحاد بقوّة المحبّة، فالكون كلّه مبنيّ على نظام المحبّة، القوّة النوويّة القويّة التي يقع في قبضتها كلّ شيء بدءاً بالعالم المتناهي في الصغر، إنها بلغة الفيزياء تبادل طاقيّ إيجابيّ، وبلغة الصّوفيّة: “إن أردت أن تبدأ بشيء فعليك بضدّه، ومن أراد أن يأخذ فعليه أن يعطي أولاً “،وهي المحبّة في الخلاص النّعيميّ.

أخيراً: قدّم ميخائيل نعيمة في كتاب مرداد رؤيته حول الخلاص، ولا يتحقّق إلا بالحدس والمحبّة؛ للاتحاد بالمطلق، وذلك كلّه بتأثير ثقافته، ومؤثرات أدبه المختلفة، وتنقلاته، وقد تبين أنّ ثمة تشابهاً بين الخلاص النّعيمي القائم على الفكر الصوفيّ وأفكار الفيزياء الحديثة.

***

1 ميخائيل نعيمة: 1952، كتاب مرداد: منارة وميناء، وضعه بالإنكليزية، ونقله إلى العربية: ميخائيل نعيمة، مكتبة المناهل، دار صادر، بيروت.

2 المعرفة نوعان: عقليّة، وحدسيّة، والطرفان متضادّان، والعلاقة بينهما علاقة توازٍ تُوصل إلى التكامل، فثمّة طبيعة تكامليّة للعقليّ، والحدسيّ، كما نجد في فلسفة الين واليانغ الصينية القديمة. سمر الديوب، الثنائيات

الضدية: دراسة في المصطلح ودلالاته، ص16

3 تبحث فيزياء الكم في العالم المتناهي في الصغر، والذي لا يدرك بالحواس، ويحتاج إلى الخيال لإدراكه.

4 ينظر: أميت غوسوامي: 2016، فيزياء الروح، ط1، ترجمة: د. رمزي صالحة، دار الروافد، بيروت.

5 فريتجوف كابرا، الطاوية والفيزياء الحديثة، ص23 وما بعدها.

6 المرجع السابق، ص23

7.. “فالفقر إلى الله تعالى الذي بيده ملكوت كلّ شيء ثابت وموجود، ولذلك

الإشارة بقوله تعالى: سنكتب ما قالوا؛ أي سنوجبه..” سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، ص949، نقلاً عن الفتوحات المكية، 2/264.

8 مرداد مبالغة اسم فاعل من الفعل “ردد”، بمعنى الرجوع إلى الشيء، ابن منظور، لسان العرب، مادّة ردد

9 الرواية، ص70

10 فريتجوف كابرا، الطاوية والفيزياء الحديثة، ص9.

11 الطاوية والفيزياء الحديثة، ص29

12 برايان غرين، الكون الأنيق، ص210

13 الثنائيات الضدّية: دراسة في المصطلح ودلالاته، ص55

14 الرواية، ص50-51

15 الثنائيات الضدية: دراسة في المصطلح ودلالاته، ص16 وما بعدها

16 الطاوية والفيزياء الحديثة، ص140

17 يرى محمد شفيق شيا أنّ طبيعة الكون أحادية مهما تبدّل، أو تشكّل، أو تنوّع، والخلاص عند نعيمة كفاح لمواجهة الثنائية لصالح الأحاديّة.

فلسفة ميخائيل نعيمة، ص104

18 الرواية، ص75

19 يوجد الالكترون والنيترون في أكثر من موضع في الوقت نفسه، ففي عالم الكمّ لم نعد نتحدّث عن هنا أو هناك، بل نتحدّث عن هنا وهناك، والالكترون الذي يتخذ مداراً حول النواة من الممكن أن يكون في أكثر من

مكان في الوقت نفسه. أمير أكزيل، التعالق أكبر لغز في الفيزياء، ص9.

20 مع القفزة الكمومية، ص 100

21 الرواية، ص136- 139

22 المرجع السابق، ص60

23 الرواية، ص139

24 لا شيء في حال سكون تامّ، وتعاني الأجسام كلّها الهياج الكمّي مهما بدا الهدوء سائداً الكون الأنيق، ص172

25 المرجع السابق، ص196-197

26 الرواية، ص97- 98

– المصادر والمراجع

-أمير أكزيل: 2008، التعالق أكبر لغز في الفيزياء، ترجمة: عنان الشهاوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

-الحكيم، سعاد: 1981، المعجم الصوفي، ط1، دندرة للطباعة والنشر، بيروت.

-الديوب، سمر: 2017، الثنائيات الضدية: دراسة في المصطلح ودلالاته، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العتبة العباسية المقدسة.

-شيا، محمد شفيق: 1987، فلسفة ميخائيل نعيمة، ط3، منشورات الحسون الثقافية، بيروت.

-غرين، برايان: 2005، الكون الأنيق، ط1، ترجمة: فتح الله الشيخ، المنظمة العربية للترجمة، المعهد العالي للترجمة، بيروت، الجزائر.

-غليك، جايمس: 2011، نظرية الفوضى: علم اللا متوقَع، ط2، ترجمة: أحمد مغربي، دار الساقي، بيروت.

-غوسوامي، أميت: 2016، فيزياء الروح، ط1، ترجمة: د. رمزي صالحة، دار الروافد، بيروت.

-كابرا، فريتجوف: 1999، الطاويّة والفيزياء الحديثة، ط1، ترجمة: حنا عبود، دار طلاس، دمشق.

-مجموعة مؤلفين: د.ت، الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر، الرياض.

-ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي: 1994، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت.

-نعيمة، ميخائيل: 1952، كتاب مرداد: منارة وميناء، وضعه بالإنكليزية، ونقله إلى العربية: ميخائيل نعيمة،

مكتبة المناهل، دار صادر، بيروت.

-Kushi, Mitchio, with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS Exploring the Unexplained, 1992, Avery publishing Group Inc. Garden city park.

***

*غداً 25-1-2022 ورقة الشاعر أحمد الحسيني.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *