كسب الوقت

Views: 207

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 محور حياة الإنسان الناشط، في أي مجتمع من المجتمعات، إنما هو كسب الوقت. وكنت سمعت مبكرا، وأنا على مقاعد الدراسة، في الصفوف الإبتدائية، أن “كسب الوقت” بالنسبة للتلاميذ، هام للغاية. لأنه يهرب بين ألعابهم. يهرب في ملاعبهم. يهرب في جعبة عبثهم الطفولي، فلا يمسكون به لإتمام واجباتهم المدرسية، إلا وقد طار منهم، وغرق في الليل.

 وكان جاري، وهو رجل تقدمت به السن وإحدودبت منه  الظهر، لكثرة ما “يشيل” عليها، من أثقال الليالي، -كلما قلت له: إرحم نفسك. إرحم شبابك. – يجيبني بعناء شديد، بعد التحية: “العمل كثير. والعمر قصير.” يريد أن يؤدبني، بما لم يتسن لي معرفته من علم الحياة، أن الوقت لا يتسع لكل أعمالنا. لكل أفكارنا. لكل مبادراتنا. لكل ما نحلم به. ولو أمضينا عمرنا نسعى وراءه. ولذلك علينا، ألا نضيع منه الثواني، بعد الثواني. والدقائق بعد الدقائق. والساعات بعد الساعات، لأن لها حسابها، في برامج الأعمال. التي وضعنا لتنفيذها، برامجنا. ووضعنا بإزائها، روزنامتها.

 كسب الوقت، هو الذي يجعل المرء ناجحا فيما يذهب إليه من عمل. وهو عدو لدود ل “إضاعة الوقت”. يعلمنا، بل يؤدبنا على الإلتزام بالدقة، في تنفيذ ما نقوم به. وما نحضر له، وما نرسم له من خطة أيضا لتنفيذه.

 إثنان أهل الأرض، عند أبي العلاء المعري في عصره:  أحدهما العاقل. والآخر الجاهل. وبعد ضياع الفروق بينهما، في عصرنا هذا،  صرنا نقول:  إثنان أهل الأرض،  من يكسب الوقت. ومن يضيع الوقت.  وإذا كان الجاهل عدو العاقل فيما مضى، فإن مضيعة الوقت، لمما يحرج من يحرص على كسب الوقت. ولهذا ربما ينفر الحريص على وقته، ممن يرى فيهم، جماعة عبث ولهو وتضييع وقت.

أول ما يجب أن يتعلمه طالب علم، إنما هو كسب الوقت. وكذا السيدة في منزلها. وكذا السيد في عمله. والمسؤول في مكتبه. والعامل أمام عمله. ذلك لأن النجاح وتحقيق النجاح، والسبيل لتحقيق النجاح، لمما يقوم على “إستراتيجية”، هي كيف يمكن لنا أن نكسب الوقت. إستراتيجية دقيقة عنوانها: كسب الوقت، لا إضاعته، في سبل غير سبيله، مهما كانت النوازع، ومهما كانت الأهواء، ومهما كان الشغف. فتحقيق هدف بالحرص على الوقت وعلى كسبه، رغم الشغف بغيره، أعظم ثمنا من فواته وخسارته،  وراء سبل العذوبة في إضاعة الوقت.

كسب الوقت، خدنه الدقة. خدنه النظام العام.  خدنه الإنتظام. خدنه أيضا وأيضا، الحضور المادي والحضور المعنوي، أثناء السير بالعمل. ذلك أن الإستهتار، وقلة التجربة، بالإضافة إلى قلة الخبرة المتصلة بالحسابات وبالرياضيات وبالهندسة وبعلم الفلك، لا تمكن المرأ من حقيقةذهبية: إن لكل شيء ميعادا. وإن “كل شيء بميعاد”.

  كسب الوقت، هو ضد هروبه. هو ضد ضياعه. هو ضد نفاده. هو ضد تسربه وتلاشيه، وتعمد قتله بألوان من اللهو العذب أو الإستهتار، الذي يسرق المرأ من نفسه في البرهة الذهبية. في البرهةالنفيسة. في البرهة العزيزة. فما إستطاع مسؤول أن ينجح في عمله، ما لم يؤقتها على حركة النجوم الكونية، وليس على الساعة المعدنية.  فضبط الوقت، والإنضباط في الوقت، وكسبه صديقا في عملنا، لمما يفتح أبواب النجاح لنا. والعاقل من يضبط عمله على جدول الساعة، ويتكتك مع حركتها وحركة النجوم الموازية لها. فالكون إنضباط دقيق. والمرأ جرما صغيرا، إنما هو في غاية الإتباع الدقيق لقواعد الإنضباط. وفيه، لا يتأخر أمر على أمر. فما بال صاحبه، سادرا في إضاعة النظام. في إضاعة الوقت.

 أخطر ما نمر به اليوم، هو أن نقلد المسؤولين في إضاعة الوقت، بدل كسبه. هو أن نؤجل المحاسبة والمعاقبة، لما بعد. وما بعد بعد. هو أن نؤجل المحاكمات. ونؤجل النظر في تصويب وتصحيح الأوضاع في القطاعات، وفي الإدارات. وفي المصالح المختلفة، فينفد الوقت، قبل أن ندرك الهاربين والمهربين، والمرتكبين. قبل أن ندرك الفاسدين، فلا يكون المجتمع فريسة لهم. أخطر ما في إضاعة الوقت، هو إضاعة الشعب. والتفلت من المسؤوليات تجاهه، بحجة مرور الوقت. أخطر ما يصيب أبناءنا، أن نعمم عليهم، أن قانون مرور الزمن، مثل قانون مرور الوقت. لا تصح هاهنا المقارنة بينهما. فهذا أمر. وذاك أمر آخر. والنظر في ذلك، يحتاج إلى محكمين وأحكام.

 أخطر ما يمر بنا اليوم، هو أن المسؤوليين، يتقصدون إضاعة الوقت، بدل كسبه. إنظروا ماذا حل بنا منذ “ثورة17- ت1”. إنظروا كيف أضاع المسؤولون الفرص، في الجدال. كيف أضاعوا الفرص مع الأمم المتحدة. ومع صندوق النقد الدولي. كيف أضاعوا الفرص في الإصلاح. في التشريع. في سن القوانين. في إستدراك ما وقع لنا، قبل أن يقع لنا.

 لبنان أضاع الوقت ولم يعمل ولو للحظة واحدة، أن يكون صديقا للوقت. إنظروا في الحروب التي مرت عليه، منذ حرب السنتين، حتى اليوم. منذ حرب الجبل. منذ حرب الثلاثين عاما بين بين بعل محسن وباب التبانة في طرابلس. إنظروا معي، كيف أضاعوا الوقت في الجرود وعلى الحدود. وقبلها في السابع من أيار. وقبل ذلك كله، فيما يحدث للبنان اليوم. إنظروا معي، كيف يستمر اللبنانيون في إضاعة الوقت، لتشكيل حكومة. ولعقد جلسة لمجلس الوزراء. ولوضع جدول الأعمال على طاولة مجلس الوزراء.

 لبنان هو أعظم مثال في العالم، على إضاعة الوقت. كلما تقدم من محطة، يفوته القطار. ولم يتعلم بعد، كيف يكون الإنتظار. ولا كيف يحسن به الصعود إلى القطار. لبنان تأخر كثيرا عن سائر الأمم والشعوب، لأنه أمضى عمره ولا يزال، في النقاشات العقيمة التي تقتل الوقت. وما عرف يوما أن يكسب الوقت. كل شعوب العالم، أفادت من ضبط شؤونها، وما أهدرت من وقتها ما يقع في خانة هدر الوقت. فما بالنا لا نكون أصدقاءه: نعمل دائما لكسب الوقت. قبل كل إستحقاق، وما بعده. ما بالنا لا نجرب ولو ليوم واحد صيغة كسب الوقت!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *