لونا قصير في “أخطاء وخطايا”: أنطولوجيا الحياة اليومية

Views: 2133

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

منذ مؤلفها الأول: “القميص الزهري”، والذي صدر في العام2014،  عرفت الروائية لونا قصير، كيف تخط لنفسها نهجا أدبيا، تعالج من خلاله، مشكلات الحياة اليومية، وكأنها عالمة إجتماع، عالمة مجتمع. تحمل جميع القضايا والمسائل التي تراها، على المنهج الأنطولوجي، الذي يساعدها كثيرا في تفسير الظواهر الإجتماعية، بما يعج فيها، من شؤون وشجون إنسانية عامة. وربما أسرية وعائلية بخاصة. حيث يختلط على يدي الراوية، الخاص بالعام، في لعبة فنية راقية، وعلى ضوء مقاربات إجتماعية، تجعل من الأحداث والوقائع، مشاهد تفصيلية لعالم عذب. لعالم معذب. لعالم قاهر. إذ كل شيء في عالم الرواية، يمكن أن يطوع للبحث العلمي الرصين. بل يمكن أن يشكل مادة قيمة للدراسات العلمية.  وهذا ما تشي به أعمال لونا قصير، التي توالت في الصدور:  بلاد القبلات- 2015. و فراشة التوت-2017. ومرآة الروح-2018. ورواية غرفة مغلقة- 2021.وأخيرا وليس آخرا، هذا العمل الروائي الذي بين يدينا: “أخطاء وخطايا”. فواصل، الحمرا- بيروت-2023: 202 ص. تقريبا”.

ترك إنفجار المرفأ في بيروت-4 آب 2020، آثاره العميقة، في نفس الكاتبة. هز غصون قلبها، فأخذت منذ تلك اللحظة، تتحول في النظر إلى الأشياء. في النظر إلى الأحداث. في النظر إلى كل ما حولها، على أنه واحد من فخاخ المجرمين، يمكن أن يمسك بأطرافنا، ويعيق حركتنا، ويصيغ لنا مأساتنا، ولو دون دراية منا. فلا نستيقظ، إلا وقد حمت الحياة في عيوننا. وصارت تتوالى علينا الفصول، وكأنها جزء من ألوان العذابات التي تغرقنا بالأحزان اليومية، بدل أن نذهب كما سائر الشعوب، إلى الحياة، بكل فرح وحبور وإغتباط.

” صعق اللبنانيون والعالم عند سماعهم خبر كارثة تفجير مرفأ بيروت، فاجعة لا يستطيع أن يتحملها عقل ولا قلب. إن يوم الرابع من آب2020، وصمة عار على جبين الإنسانية. وسيكتب التاريخ عنه. ويذكره على مدى أجيال مديدة.”

 تغرق الرواية، في جميع فصولها، في عالم الأنطولوجيا المعقد. فكل شيء فيها، يمكن أن يحمل على عدة وجوه. فالأبطال الغارقون في تفاصيل الحياة، هم أيضا ضحايا. يشبهون إلى حد بعيد ضحايا المرفأ. ولهذا نراهم يتابعون حياتهم، كمن يتابع موته. دون أن يستطيعوا الفكاك من أقدارهم المأساوية التي رسمت لهم.

 

” أعاد مشهد تلك الشجرة المعمرة في باحة قصر مهجور، إلى ذهن جوانا حلما قديما، لم تستطع حينذاك أن تفسره. غير أنها عالقة في وسط المجهول. وهي التي تتباهى أمام أصدقائها ببراعتها في تفكيك الألغاز، وتفسير الأحلام التي تدور في عقولهم خلال غفوتهم”.

الصداقات والإخوانيات، والقرابات، والزمالة في العمل وفي المهن، تبدو لها متلبسة بالحياة المأساوية. فلا شيء يمكن أن يند عن أتون العيش، ما دامت ناره تطال القريب والبعيد. ما دام السياسيون يصرحون، بأنهم ذاهبون بشعبهم، إلى جهنم.

“تفاجات عند إستلامها مخرا رسالة من ألبير، يخبرها فيها أن إبنه مريض جدا، ويطلب منها أن تصلي لأجله لأن حالته حرجة جدا.

لم يمض على إستلامها الرسالة عدة أسابيع، وإذ بها تستلم منه رسالة ثانية، يخبرها فيها أن إبنه لم ينج من المرض، وفارق الحياة”.

 في المنزل، كما في المكتب، كما في السوق، كما في حقول العمل كلها، تتجلى للأديبة الروائية عمق المأساة التي تحفر في البلاد.  وكأنما ذلك كله، إنما هو قدر الناس الذين وجدوا أنفسهم على خط التماس، بين الحياة والموت. فقدم هنا. وقدم هناك. وإذا كل شيء يجري بمقدار ما يمكن للأسماك، أن تعيش خارج الماء. فالموت أو النفوق، يصبح حالة إعتيادية. لأن البلاد أسست على القهر. على الإستلاب. بل على السلب والنهب، الذي صار جزءا تفصيليا، من منظومة الفساد، التي تضرب جميع القطاعات، على سطح الدولة، أو في أعماقها. أو فيما يشكل منها الدولة العميقة.

“عاد نيسان يعد أيامه، قبل أن تستقبل السماء ملاكها. ها قد مضت ثلاث سنوات على رحيلها، وجوانا لا تزال تشرب نخب صمودها وإيمانها وصلواتها، دموعا لن تعيدها”.

لونا قصير، قدمت فتوحا جديدة، في عملها هذا: “أخطاء وخطايا”، كما في جميع أعمالها الروائية السابقة. ولهذا إنبرى لها الباحثون والكتاب والنقاد. يفتشون في تضاعييف روايتها، عما هو إجتماعي. وعما هو نفسي. وعما هو مدني. وعما هو بلدي. وعما هو وطني ولبناني بإمتياز.

فهناك أكثر من عشرة دراسات، حررت في أعمالها الروائية. وقد أجمعت هذة الأقلام، على حسن صنيعها الروائي. وعلى حسن صياغتها الأدبية. كما على حسن معالجاتها، للمسائل والقضايا الإنسانية و الوطنية. وأيضا العائلية والأسرية.

كتبوا عنها: د. نزيه كبارة: الأدب القصصي في لبنان الشمالي.  الاستاذ إلياس العشي: الذي تناول بالدراسة معظم أعمالها. والدكتورة زينب لوت: المعنى السردي. بالإضافة إلى ثلة من الأقلام، التي وجدت في أعمالها الروائية، ما يغني المكتبة العربية.

 وقد نوه الناشر، الشاعر نعيم تلحوق بعملها، على الغلاف، فكتب: ” تتابع لونا قصير، رحلتها في السرد الواقعي- التخييلي، لتعيد خلق أفكار جديدة، تتمحور فيها معان تأثيرية، لها بعدها الواقعي. وهو يضيف: هي نسيج لغة مسكونة بالحب والقلق.. فلنقرأ لونا قصير، في هذة السردية، بوجعها وفرحها، لنلحظ أسلوبها المتطور عن رواياتها السابقة”.

“أخطاء وخطايا”، عمل إبداعي. يعيد تكوين المجتمع أنطولوجيا، ويسبغ عليه، لمسات الحياة، بكل مشاغلها. وبكل مآسيها  وبكل ألوانها. حتى لتبدو لنا وكأنها مكون من مكوناتها.

“في كل مرحلة من أعمارنا تتغير طريقة تفكيرنا وتصرفاتنا، للنضوج حقوق مع تقدمنا في السن. وكل خطأ نرتكبه يجب أن يكون بمثابة درس لنا، وإن كانت النوايا الحسنة، لا تبرر الخطأ”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *