الدكتور هاشم الأيوبي أمير موسم “قطاف الخريف”(١)

Views: 169

د. جان توما

يخرجُ الأميرُ، من دونَ حاشيةٍ، إلى بستانِهِ المجاورِ، يُطْعِمُ العصافيرَ حَبًّاتٍ من أبجديتِهِ، فيما يتلمّسُ ملامحَ البرتقالِ بفرحٍ، وينكسِفُ إنْ تأخّر موسمُ “قطاف الخريف”، فيرسمه بالكلمات على الورقِ. يتأملُ ثلجَ الجبالِ المطلّةِ عليه، كما يتلفّْتُ إلى ترابِ كورتِهِ المبلّلِ بدمعِ العيونِ، فيرى الصورةَ الشعريّةَ الآتيةَ من وجعِ الزمانِ، فلا الأبجديةُ تكفيهِ ليُنْشِدَ قصيدتَهُ ولا البراري تستمعُ لمووايلِ فرحِهِ.

في إطلالتِهِ على الدنيا يتوثّبُ لتفتُّحِ بُرْعُم، وصرخةِ شُهبانٍ في مدى الفضاءِ. يعرفُ أنّ الأرضَ ولاّدةٌ لمن يعرفُ التعاملَ معها، فتلْقاهُ ما بين الكتبِ قاطفًا، وبين أثلامِ الفِلاحةِ زارعاً ليكونَ القارىءُ، على بيادرِ القطافِ وطاحونِ الفِكَرِ، حاصدًا.

يذهبُ الهاشمُ الأيوبيُّ إلى إمارتِه بلا سيفٍ ولا تِرْسٍ ولا تاجٍ، يلاعبُ سُبْحةَ الأحرفِ فيحيلَها إلى ضياءْ لتصيّرَهُ إلى بقاءْ. يتهادى بعباءةٍ من التراثِ العربيِّ الحضاريِّ فترى العباءةَ  كالمعلّقاتِ على جدارنِ العمرِ نُطقاً وكتابةً وإطلالاتٍ على المنابرِ التي تفوحُ كزهرِ عطرِ الليلِ أو مسكِهِ.

يخرجُ الأميرُ إلى إمارتِه الحروفيّةِ كخروجِ الهنيهةِ إلى المطلقِ، إذ لم يَعُدِ العالمُ يكفيهِ، فالأبعادُ تتوالى كما الولادةُ المعجوقةُ بأناشيدِ الحياةِ. يأتيكَ الهاشمُ الأيوبيُّ من شوارعِ إلمانيا وأجواءِ المستشرقينَ ومفارقِ العالمِ إلى الأصولِ في رابيةٍ من روابي بلدتِه” النخلةِ” ليكونَ نخلةً مثلَها تتمسّكُ بشروشِها ولو طالتْ أغصانُها بادياتِ السماءِ ليكونَ الأميرُ القانعُ بوحلِ الأرضِ المثمرِ. يلطفُ الأميرُ بمحبيِه والواقفينَ أمامَه، فلا تكتملُ الصورةُ عندَه إلّا بزملائه في جامعة الجنان، ووجوه الموظفينَ الأبناء، كما يرى في طلابه أبجديةَ الإبداعِ فيشجّعُهُم على البحثِ، ويدفعُهم إلى التقميشِ، ويحرّضُهم على التوغّلِ خاصةً في رسمِ الصورةِ الفنّيةِ التي لا عَدَسَةَ عندَه إلّاها، ولا رؤيةَ له إلّا بها في عالمِ الأدبِ والفنِّ والخروجِ من المتاهاتِ الكتابيّةِ إلى الجو الصافيِ والرؤيةِ الحسنةِ.

 

هو متيقّنٌ أنّ الكلمةَ متى قيلتْ قامتْ في حضرةِ الإبداعِ ولو خرجتْ من حبرِ العتمِ إلى معارجِ النورِ ومفارقِ الضياءِ. ما يضجرُهُ في ضجيجِ الكونِ هو هذا الشتاتُ في النصوصِ، وفي الخروجِ إلى عوالمِ التيِه حيثُ اليقينُ بين يديِكَ، وحيثُ تصيرُ النفسُ موضوعَ الكتابةِ نُطقًا أو تدويناً. كلُّ امرىءٍ ديوانُ نفسهِ، وهو جداريّةُ عمرهِ، ولكنْ لا روافعَ بين الذاتِ والنصِّ، كلُّ الجدرانِ معَ الأميرِ دون القامةِ، وهو الشاهدُ عصرَ سقوطِ الجدرانِ والفواصلِ بالعلمِ والحريّةِ، وهو القارىءُ للتاريخِ بحكمةٍ، وهي حكمةٌ قرأَها مراحلَ كما لو أنّها أغنيةٌ يطرَبُ لها الرائيُ قبلَ أن ينامَ.

وَرَدَ الهاشمُ إلى مواردِ العلمِ بين بيروتَ وبرلينَ وعواصمِ أمهاتِ الكتبِ. أبحرَ في دكاكينِ الكتاتيبِ، لازم الخطّاطينَ، تلقّنَ الكلمةَ الموحيةَ على يدِ شعراءَ كبارٍ في حواضرِ الأماسيِ، ولو كلّفَهُ ذلك العودةُ ليلاً سيرًا على القدمين من طرابلسَ إلى بلدتِه في الكورة، بعد أن خلتِ الطرقاتُ، يومَها، من السياراتِ، وعجّتْ بقدودِ القصائدِ، وبحّاتِ أصواتِ المنشدينَ ، ومووايلِ المسافرينَ في أروقةِ مناديلِ الإلهامِ التي لوّحتْ لفتىً غريرٍ اشتهى التوتَ والتينَ والزيتونَ على دربِه الغارقِ بالعيونِ الراصدةِ تمتماتِ الشفاه بكلماتِ الجمالاتِ الواعدةِ.

الأميرُ هاشمُ الأيوبيُّ لا سلطانَ له إلّا سلطانُ الحبِّ، لا يمارسُ حقَّ القوّةِ بل قوّةَ الحقِّ، ولا توابعَ له بل أحبّةٌ وورفقةُ دربِ في قادومياتِ العمرِ، وجلولِ كروم ِالزمنِ،  وحفافي أنهارِ ثريّاتِ الذهبِ، لذا إنَّ قصدتَه برأيٍ خرجتَ بشالِ قصائدْ، وإن استشرتَه خرجتَ متخايلاً بعباءةِ شواهدَ لكبارٍ من خليل حاوي والسياب والبياتي وأدونيس وشعراءِ اليمنِ والمنسيين القائمينَ أحياءً في نَبْضٍ شرايينه ، فتراهُ أخا سفرٍ جوّابِ أرضٍ في واحاتِ أشعارِهم وحكاياتِهم فيطرَبُ لألفِ مناسبةٍ وأخرى، كما حضورُ أبنائِه وأحفادِه في خربشةِ طفولتِهم، وفي عبورِ البحارِ على زورقِ الشوقِ إلى وجوههِم، ووجوِهٍ أليفةٍ أحبّها، فكان لها وفيًّا في عَفَويةِ سؤالِه وفي رحابةِ افتقادٍه.

هذا السؤالُ كان جوابُه الواحدُ في رؤيتهِ لهويّة البلد، واحدًا هكذا في عيشِ أبنائه، فابقَ على بداياتِكَ حضرةَ العميدِ، حافظًا تراثَك الماسيَّ، باقيًا في مسرى تواضُعِك العلميّ، هكذا في ما يطلُعُ من قلبك إلى لسانِكْ،خادمًا طلابَك كأبنائِكْ، ساعيًا إلى مَرْضَاةِ مَن تنصرفُ إليه في صلاةِ نهارِكْ، وقيامِ ليلِكْ، وفي تجهّدِكْ، حماكَ اللهُ ورعاك.

***

١- في ندوة بدعوة من جامعة الجنان بالتعاون مع المحلس الثقافيّ للبنان الشماليّ والرابطة الثقافيّة ومركز صلاح الدين للثقافة والإيمان،   السبت 5 شباط 2021 بمناسبة عيد مولده الـ 75 وصدور مجموعته الشعريّة “ قطاف الخريف”.

(https://www.newsoftwares.net/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *