فصول من رواية “بَحر” لـ كابي دعبول

Views: 353

*”للصخور أسماء في الضيعة التي أبصرت فيها النور” (أمين معلوف-كتاب “صخرة طانيوس”)

 

 

يجلس حنا على صخرته المرتفعة فوق مياه البحر. يتأمّل الشاطئ الصخري وتراكض الأمواج باتجاه الشاطئ. يفرح، يحزن، يبتسم، يبكي، ناظرًا الى الأفق البعيد، يشكو همومه الى البحر، طالبًا منه الإتيان بأمل جديد يطفو على أمواجه المتراكضة نحوه. حتى بات لحنا مع صخرته عشرة وطول رفقة أمّنت له ملاذًا آمنًا لمراجعة الذات والتأمّل. إن أحداث هذه الرواية وشخصياتها من نسج الخيال حتى ولو تشابهت الأماكن والأسماء، غير أن صخرة حنا تبقى الاستعارة الحقيقية الوحيدة الراسخة  في هذه الرواية، إذ كم من أمكنة تركنا فيها شيئًا من ذاتنا، مهما ابتعدنا عنها تبقى الملاذ الوحيد لذكرياتنا بحلوها ومرّها…

 كابي

(الجزء الأول)

كان المطر غزيرًا في تِلك الليلة. وصوت أمواج البحر التي كانت تضرب صخور الشاطئ ، يختلط بصوت الريح البحرية العاتية.

فشتاء القرية المحاذية للبحر، لم يكن أرحم من شتاء القرى العالية المشرفة على القرية الساحلية. 

كان الزوج ينتظر في براح الدار المؤلف من غرف غير متداخلة وتتصل ببعضها البعض. فالقابلة القانونية الوحيدة في القرية أم رفول لم تصل بعد. 

كان المخاض عسيرًا والزوجة الأربعينية لم تلد من قبل، والزوج يرتجف من البرد ومن زخات المطر التي كانت تصيبه وهو يجول بنظره في عتمة المدخل، علّه يطمئن نفسه إذا رأى “الداية” حضَرَت.

تأخرت أم رفول ومن ذهب لإحضارها، والثواني كانت قاتلة بالنسبة الى من انتظر سنوات طويلة ليصبح أبًا وقد جاوز عمره الخمسين.

يحاول الرجل الاستماع الى خطوات قد تدنو من الدار غير أنه لم يكن يسمع سوى صوت البحر وكأنه سيصل الى الدار القريب من الشاطئ ويبتلعه بموجة عظيمة من أمواجه المرتفعة.

وصلت أم رفول وبدأت تصدر الأوامر الصارمة، الماء الساخن، الشراشف، الأقماط، وأخيرا جاء الأمر العسير.

  • إذهب وأحضِر من يساعدني من نسوة الجيران.

ارتاب الرجل وكان في حيرة من أمره. باب من سيدق في الساعة المتأخرة من الليل والناس نيام أو قابعون تحت ملاحفهم من شدة البرد.

طلب من ابن أخيه الذي كلّفه بإحضار “الداية” أن يسعى الى جلب أمه التي كانت تسكن في الحي البعيد عن الشاطئ في منزل بين أشجار الزيتون.

انطلق الشاب على وجه السرعة وأحضر أمه الى دار عمّه وقد وصلوا إليه بصعوبة. لكن الولادة تعثرت وطال الانتظار القاتل، والزوج مسمّر في البراح أمام باب إحدى غرف الدار. ومع انبلاج الفجر حصلت المعجزة التي كان ينتظرها من زمن بعيد، حين سمع صوت بكاء الطفل ومن ثم صوت أم رفول وهي تناديه من الداخل قائلة له: “مبروك صِرِت بي”…

لم تسعفه قواه على فتح الباب والدخول الى غرفة المولود. فعلا صوت “الداية” من جديد:” صَبي صَبي وينك يا حنا”. وأخيرا نجح حنا في الدخول الى الغرفة والدموع تنهمر من عينيه، لقد تحقق حلمه وأضحى أبا بعد صبر مرير . دنا حنا من الفراش وطبع قبلة على جبين الأم وأخذ الطفل بين يديه وضمّه الى صدره شاكرا الله على عطيته الغالية.

وبصعوبة كبيرة نطق حنا وقال: ‘لقد وُلِد بَحر”…

لم تدم الفرحة بالمولود كثيرًا. فظروف العمل المتواضع للأب لن تسمح له بتلبية حاجات الرضيع. وكذلك الأمر بالنسبة الى الأم التي كانت بحاجة الى غذاء جيّد يدرّ لبنها لإرضاع المولود.

فطبيعة عمل الوالد تكاد تكون موسمية. فهو بحّار تقدّم في السن يؤمّن لقمة عيش عائلته من صيد السمك.

صرف حنا حياته في البحر عاملا على مركب صيد صغير يعود لشقيقه الذي كان يدفع له إجرة يوم العمل، بغض النظر عن ثمن السمك المصطاد الذي كان يبيعه لتجار السمك في سوق القرية.

وفي مواسم الزيتون كان حنا يعمل في الحقل على قطاف الزيتون ونقله على دابة مستأجرة الى معصرة القرية.

تباحث حنا مع زوجته في سبل تأمين مداخيل إضافية للعائلة. فنصحته بأن يترك القرية قاصدًا عاصمة المحافظة بحثًا عن عمل دائم وغير متقطع.

  • إذهب الى المدينة يا حنا وحاول البحث عن عمل دائم.
  • -ماذا سيعمل صياد السمك في المدينة يا امرأة؟ 
  • قد يوفقك الله في العثور على عمل هناك مدفوع الأجر مشاهرة. وهكذا نعلم أنه في نهاية كل شهر ستقبض مبلغاً ثابتًا نستطيع معه أن نوازن مصروف البيت مع دخلك هذا. فالمدينة لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن القرية. أما الانتقال إليها فلن يكون صعبًا خاصة أن حليمًا ينقل التلاميذ كل يوم الى مدارس المدينة ويعيدهم إلى القرية بعض الظهر.
  • طيّب طيّب.

لم يفكّر حنا طويلاً في خطّة زوجته للعمل في المدينة. بل رأى فيها بارقة أمل. وفكّر في بحر الذي سيكبر غدًا ويقتضي تأمين الدراسة له في مدرسة خاصة في المدينة. فمدرسة القرية لن تستطيع أن تؤمن له المستوى العلمي المطلوب ليخرج من دائرة الفقر التي تلف العائلة. فالتخطيط لمستقبل بَحر يشكل الآن الأولوية.

غادر أبو بحر داره قاصدًا منزل شقيقه ليزفّ إليه الخبر السار.

  • أتريد أن تترك العمل معي؟ تريد الذهاب للعمل في المدينة.
  • نعم يا أخي. قد أجد فرصة هناك لتحسين أوضاعي وأوضاع عائلتي.
  • لا بأس. ولكن اعلم أن لي نصيب في ميراث والدنا قدره نصف ملكية الدار التي تسكنها. وفي حال انتقالك الى العمل في المدينة عليك أن تسدد لي بدل إشغالك النصف الذي أملكه.
  • ولكن…
  • لا تعترض على ذلك. فأنت تعمل معي على مركب الصيد و أدفع لك أجرك. لم أكن أتقاضى إيجار البيت منك لأنني كنت أحتسب بدل الايجار المتوجب عليك من ضمن أتعابك. أما وقد قررت أن تترك العمل معي وتعمل في المدينة فعليك تسديد بدل إيجار نصف مساحة الدار. 

خرج حنا من منزل أخيه يسير على دروب القرية مترنحًا.. وتغيب الرؤية عن الطريق كلما فاضت عيناه بموجة من الدموع الساخنة. وقال في نفسه أيعقلُ أن يكون أخي بهذه القسوة؟.

وصل حنا الى داره مُنهكًا وحاول أن يخفي عن زوجته ما حصل مع أخيه.

  • أين كنتَ يا أبا بحر؟
  • كنت في زيارة لأحد منازل القرية.
  • لا تبدو على ما يُرام. ما الذي يشغل فكرك.
  • يا أمّ بحر بالله قولي لي الحقيقة. هل تعتبرين أنني صرفت عمري بالعمل الحَسَن؟
  • ما بالك وبال هذا السؤال الغريب؟
  • قولي لي الحقيقة لو سَمحتِ.

كانت أمّ بحر من النساء الحكيمات في القرية. والنسوة يستشرنها في أمورهن. وكانت معروفة لدى أهل القرية أنها تزن كلامها ولا تطلقه على عواهنه. وهي معروفة أيضًا بصبرها الطويل، فقد صبرت كثيرًا على جرحها وتَعيير البعض لها بأنها عاقر، وقد ثابرت على الصلاة والتضرع لله بأن يرزقها طفلاً من دون أن ينفذ صبرها، وكانت تقول دائمًا إنّ الاولاد عطية من الله. وكانت هذه المرأة تؤمن حقًا أن الله قد كافأ صبرها وطولَ أناتها بما رزقها به وهي في الاربعينيات من عمرها. بل كانت تعتبر ولادة بحر معجزة خصّها الله بها.

  • يا حنّا أراك تحاسب نفسك اليوم وتسأل عن أعمالك. ماذا فعلتَ يا “معتَّر” حتى تسائل نفسك بهذه الطريقة. لو لم أجد فيك الرجل المؤمن المتكلّ على نِعَم ربِّه لما ارتبطتُ بك منذ البداية. تعمل بكدّ وتَعَب وتعيش حياتك بما يُرضي الله. تواظب على الصلاة في البيت وفي الكنسية أيام الآحاد. لم تشتكِ يومًا ولم تتذمّر من واقع الحال الذي نعيشه. ولكن قُل لي أنت الحقيقة هل ارتكبتَ ما يغضب الله من دون علمي؟

ابتسم حنا ونظر الى امرأته قائلاً: “لا يْروح فِكرِكْ لَبْعيد”. الأمر وما فيه أنني أخشى أن أكون قد أكلتُ حقَّ أخي.

  • حقّ أخيك؟ هل تعني ذلك بالمُطلق؟ أتتكلّم عن أخيك في الانسانية يا حنا ؟ لا والله ما رأيتك تأكل حقّ أحدٍ. حتى عندما تستدين مبلغًا من المال كنت دائمًا تحرص على تسديده بتاريخ استحقاقه. حتى أنّك تصرف النظر عن شراء بعض الحاجيات بحجّة أن دفتر دكان الحارة لم يعد يتّسع لتسجيل ما تشتريه بالدَين.
  • يا أمّ بحر ما بالكِ لا تفهمينني. قلت لك أخي.
  • أخوك ابن أمّك وأبيك؟ ما باله؟

تابع حنا الحوار مع زوجته بصوت متهدِّج وبصعوبة في الكلام. فهو لم يَعتَدْ على إخفاء أيّ أمر عنها. ولكنّه كان يجد صعوبةً في طرح موضوع إيجار حصة أخيه في دار والدهما المتوفي. حَتّى أنه كان يفكّر في نفسه ما إذا كان مخطئًا بحق أخيه منذ أن توفّي والده قبل عشر سنوات وحتى هذا اليوم، لعدم قيامه بتسديد بدل الإيجار.

  • يا أم بحر في الحقيقة كنت أزور أخي هذا المساء وأخبرته بنيّتي ترك العمل معه على مركب الصيد والتوجه للعمل في المدينة.
  • ماذا حصل هل رفض الفكرة؟
  • كلا لم يرفضها لكنّه فاتحني ولأول مرّة بأمر إيجار حصته في الدار.
  • هل طالبك بتسديد بدل إيجار عن حصته في هذه الدار؟
  • نعم.
  • وما علاقة ذلك بعملك الحَسَن يا حنا؟ طالما أن أخاك يعتبر أن بدل إيجار نصف الدار كنت تسدّده له من خلال عملك معه فالمشكلة محلولة. لا تنظر الى الوراء يا حنا ولا تحاسب نفسك عن أفعال لم تقترفها. أنظر الى المستقبل وقرّر ماذا ستفعله من الآن وصاعدًا..
  • يا أم بحر المشكلة تكمن في موازنة المدخول والمصروف. فلنفترض أنني نجحت في إيجاد عمل دائم في المدينة وقد أدّى هذا الأمر الى رفع سقف المدخول، غير أن ذلك يعني أن نسبة الزيادة فيه سوف نسددها كبدل إيجار نصف الدار. يعني “تيتي تيتي”.
  • اتّكل على الله يا حنا. ألَا ترى أنه لم يتخلَّ عن طلباتنا ووهبنا طفلاً بعد كل هذه السنوات. “المَتل بيقُول الولد بُيِجي وبْتِجي رِزقتو معو”. نَم وقُم باكِرًا واذهب الى حليم سائق البوسطة، غدًا يوم عطلة مدرسية، واتّفِق معه على النزول الى المدينة بشكل يومي. كما أن حالة الطقس لن تسمح لكم غَدًا بالاصطياد في البحر. اتّكِل على الله وابدأ مشوارك الجديد.

في منزل حليم أحد أبناء القرية، الذي يملك بوسطة متوسطة الحجم يعمل على نقل التلاميذ على متنها الى مركز المحافظة، جلس حنا يرتشف القهوة وقد تردَّد في مفاتحة حليم في الموضوع الذي جاء إليه من أجله.

  • كيف المولود الجديد يا حنا؟
  • الحمدالله على كلّ شيء وعلى عطيّته الغالية.
  • من المؤكد أنّك أطلقتَ عليه اسمَ أبيك.
  • كلا لم أفعل ذلك.
  • ماذا سَمّيته إذًا؟
  • بَحر.
  • ضحك حليم ضحكة طويلة ومن ثمّ قال لحنّا: أَبحرٌ إذا هو اسم ابنك يا حنا؟ هات أخبِرني لماذا أطلقت عليه هذا الاسم.
  • ولماذا ضحكتَ؟
  • ربما لشدّة دهشتي. أتعلمُ يا حنا؟ لقد وُلدنا بجانب البحر وعُمنا فوق مياهه منذ صغرنا وأكلنا من خيراته وطَفَونا فوق أمواجه بمراكب الصيد، ولطالما جلسنا على الشاطئ الصخري نراقب غروب الشمس في الخريف والشتاء والربيع والصيف. لم يخطر ببال أحد منا أن يتّخذ من هذا الرفيق الدائم لنا اسمًا لولده. نعم ربّما ضحكتُ ساخرًا من هذا الواقع الذي أرشدتني إليه. هل يُعقل أن نكون على هذا القدر من الغربة مع رفيقنا الكبير “بحر”؟
  • نعم أنت على حق يا حليم. ولكن دعني أضيف على ما ذكرته أنت، أن البحر لطالما كان مقصد شكوانا. ألا تعلم أنني ألجأ إليه في أيام بؤسي وغضبي. أتحدّث إليه وهو خيرُ من أحسنَ الاستماع . أحمّله همومي ومشاكلي وأراه يدفق الامواج باتجاه صخرة الشاطئ التي أجلس عليها وكأنّه يحمل إليّ الأمل الآتي من الافق البعيد. البحر أكثر من صديقي يا حليم إنّه مصدر رزقي ومعيل عائلتي وأنا أهديت ابني الوحيد هذا الاسم علّه يكون واسِع الأفق مثله ويتعلّم معنى العطاء ويكنز في قاعه أسرار الناس ولا يبوح بها لأحد، ويتعلّم أن يهدأ بعد أن يغضب. وبالحقيقة يا حليم أنا أشعر بأنه أصبح لي بَحرين. واحد بمداه البعيد والآخر أضمّه الى صدري.

طال الحديث عن البحر بين حنا وحليم وغاصا في بحر الذكريات الجميلة وأيام الشباب. تشجّع حنا أخيرًا وفاتح رفيق ذكرياته بموضوع العمل في المدينة.

وراح حليم يسدي حنا نصائحه حول ظروف العمل في عاصمة المحافظة، فهي بالنسبة الى أهل القرية مدينة كبيرة، مأهولة بعدد كبير من السكان، شوارعها متشعّبة، والاكتظاظ السكاني فيها يجعلها مختلفة تمامًا عن هدوء القرية وطمأنينتها.

  • ستشعر بغربة في المدينة يا حنا.
  • أريد أن أسعى الى إيجاد عمل ثابت فيها.
  • لا بأس. ولكن قل لي بربِّك من أين تريد أن تبدأ؟ هل ستطوف شوارع المدينة بحثًا عن عمل وأيّ عمل؟ فأنت لا تجيد سوى ركوب أمواج البحر ورمي شبكة الصيد والعمل في مواسم الزيتون.
  • عليّ المحاولة. أعلم أن الأمر لن يكون سهلاً. عليّ المحاولة.

راح حليم يجول في أرجاء غرفة الجلوس واضعًا كفّ يده على خدّه يفكّر في اجتراح حَلّ لهذه المعضلة.

فجأة تسمّر حليم في وسط الغرفة وسأل حنا: هل تعرف ابن خالتي حسيب؟

  • حسيب الذي كان يزوركم في الأعياد مع أهله!
  • نعم حسيب وأهله يسكنون عاصمة المحافظة وهو يعمل الآن في مطبعة هناك.
  • ماذا تقترح يا حليم؟ 
  • سنذهب معًا الى حسيب ونسأله عن أي فرصة عمل في المدينة قد يكون على علم بها. تعالَ إليّ غدًا صباحّا لتذهب معي الى المدينة وسنقصد المطبعة حيث يعمل حسيب بعد الانتهاء من نقل التلاميذ الى مدارسهم.

في الطريق الى عاصمة المحافظة جلس حنا في المقعد الأمامي من البوسطة بعد أن وصل الى منزل حليم باكرًا جدًا.

راح التلاميذ ممّن هم في سنّ المراهقة وأكبر يمازحون حنا ويتنمّرون عليه قائلين له: “شو رْجِعِت عَ المَدرسِه يا حنّا؟”

حاول حليم زجر الممازحين والمتنمّرين لكن حنا كان يبتسِم لهم وفي النهاية أجابَهم: يا شباب يا ليتني أستطيع العودة الى صفوف الدراسة معكم في المدراس الخاصة التي تتابعون فيها تحصيلكم العلمي. فأنا ذهبت الى المدرسة الرسمية في القرية وتخرّجت منها حاملاً شهادة البكالوريا ولم أستطع أن ألتحق بالجامعة. ولكن هل تعلمون لماذا أنا ذاهب الى المدينة اليوم؟ أريد أن أجد عملاً فيها يمكنّني من إدخال ولدي الوحيد الى مدرسة خاصة.

خيّم الصمت على متن بوسطة حليم فالرسالة التي أراد حنا إيصالها الى التلاميذ وصلت وبقوّة.

في المدينة قصد الرجلان المطبعة حيث يعمل حسيب. وكانت مطبعة تُطبع فيها الكتب التي كانت تصدر في عاصمة المحافظة.

بعد الحفاوة التي استقبل فيها حسيب زائرَيه، أبلغها بأنهما وصلا في الوقت المناسب وبأنه لا حاجة للبحث عن عمل في مكان آخر في حال كان حنا يجيد القراءة. فالمطبعة بحاجة الى عامل يرتب أحرف الأبجدية المحفورة على قطع من النحاس والتي تتشكل منها صفحات الكتب والعمل على تركيب المَلازم في ماكينات الطباعة التي كانت تعمل على الشدّ والرفع والكَبس.

بالطبع فأنا تخرجتُ من مدرسة القرية قبل العمل في البحر. أجاب حنا.

  • عليك أن تتمرّن في المطبعة لمدّة معيّنة قبل بدء العمل وستكون فترة التمرين من دون أجر.

هنا قال حليم متدخّلاً في الحوار: من أين ستعيل عائلتك يا حنا خلال هذه الفترة؟

التزم حنا الصمت ولم يُحِب. فقد شعر بأن الفرحة التي دخلت قلبه قبل قليل بدأت تتلاشى.

أعاد حليم السؤال على حنا تكرارًا وبقي الأخير ملتزمًا الصمت.

وما زاد في الطين بلّة ما أدلى به حسيب، الذي قال إن فترة التمرين قد تطول في حال لم يتعلّم حنا مهنته الجديدة في أقل وقت ممكن. وبالتالي وجد حنا نفسه أمام حائط مسدود وبقي ملتزمًا الصمت. 

كانت أمّ بحر تنتظر عودة حنا على أحرّ من الجمر، لأنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن الخطوة التي دَفَعت زوجها إليها لن تكون سهلة على الإطلاق.

عاد حنا في فترة ما بعد الظهر مع عودة التلاميذ الى منازلهم. ودخل داره فوجد زوجته تتمشّى في براح الدار وما أن رأته صرخت: “شو يا حنا”.

لم يكن حنا مبتهجًا ولم يكن حزينًا بل كانت تبدو عليه علامات الاستعجاب من أمر ما، ونظر الى زوجته نظرة استفسار.

  • ما بالك يا حنا ماذا حصل معك في المدينة؟ هل كان قريب حليم متعاونًا؟
  • جدًّا. حتى أن العمل المنشود وجدناه لديه هو بالذات. ولكن…
  • ولكن؟ أسرع يا حنا في الكلام وأخبرني بما حصل. 

أخبر حنا زوجته عن المعضلة التي يواجهها. فهو لم يكن يحلم بأن يجد فرصة العمل لدى حسيب أو حيث يعمل هذا الأخير في المطبعة. بل جلّ ما كان يحلم به أن يساعده حسيب في البحث عن عمل في المدينة فهل يُعقل أن يجد هذه الفرصة في يومه الأول من البحث، ولا يستطيع أن يستفيد من هذه الفرصة بسبب فترة التدريب غير المدفوعة؟

جلست أم بحر على الكنبة غارقة في التفكير محاولةً إيجاد حَلّ لهذه المعضلة.

  • هل تستطيع تعلّم هذه المهنة يا حنا؟
  • أعتقد أنني أستطيع ذلك ولكن كما تعلمين المشكلة تكمن في فترة التدريب.
  • فترة التدريب لن تكون المشكلة يا حنا؟ أكرر السؤال هل تستطيع تعلّم هذه المهنة؟
  • سأبذل قصارى جهدي. من كان يتوقّع أن أجد هذه الفرصة في يومي الأول من البحث عن عمل جديد.
  • اذهب يا حنا وبلِّغ حليمًا بأنّك ستذهب معه الى المدينة كلّ يوم ودَعِ الباقي على الله.
  • هل جُننتِ يا امرأة كيف سنطعم هذا الرضيع من دون الحصول على أجر؟
  • إذهب يا حنا واعمل بما أشرت عليك به. 

                                                               (يتبع السبت المقبل)

***

*ملاحظة: إن أحداث هذه الرواية وشخصياتها من نسج الخيال حتى ولو تشابهت الأماكن والأسماء

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *