مشكلة خطيرة ما زالت في بداياتها

Views: 578

تقديم وترجمة: د. رفيف رضا صيداوي*

“مشكلة خطيرة تكاد تبدأ”، هو عنوان مقالة نَقَلَتْها دوريّة “كورييه إنترناسيونال” الفرنسيّة في عددها الصادر في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر- 1 كانون الأوّل/ ديسمبر 2021 عن صحيفة “روسّيسكاي غازيتا” الروسيّة؛ والمقالة المنشورة في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، عائدة لعالِم الجيوبوليتيك الروسيّ “فيودور لوكيانوف”، الذي حذَّرَ فيها بقوله إنّ هذه المشكلة ليست سوى “مويجة” ممّا ينتظر أوروبا ما بعد الكولونياليّة في السنوات القادمة.

مَوجة الهجرة الآتية من الشرق الأوسط، والتي اجتاحت أوروبا في العام 2015، سلَّطت الضوءَ على الاختلاف أو التعارُض الشديد بين الدول الأعضاء للاتّحاد الأوروبي. فلأسباب عدّة، خمَّنت أوروبا الغربيّة، المعتادة على تدفُّق السكّان من المناطق الأقلّ ازدهاراً في العالَم، أنّه سيكون من الأقلّ خطراً أن تفتح أبوابها وتستقبل هؤلاء المُهاجرين بأعدادٍ كبيرة. الموقف الذي تبنّته المستشارةُ الألمانيّة أنجيلا ميركل كان حاسماً. فإذا كانت هي قد اتّخذت قراراً باستقبال مليون مُهاجِر، فذلك لم يكُن، أو لم يكُن حصراً، لأسبابٍ إنسانيّة فحسب، بل لتجنُّب الانفجار الداخلي تحديداً في البلدان المُجاورة للمراكز الأوروبيّة الكبرى. ففي الواقع، شهدت الدولُ التي عَبَرَتْها قافلةُ المُهاجرين هذه أوضاعاً متفجّرة.

بعد سنواتٍ ستّ، يُمكننا أن نلاحظ أنّ أحلك التوقّعات والتكهّنات السياسيّة لذلك الوقت لم تتحقّق. البلدان الأوروبيّة الأكثر غنىً نجحت في امتصاص تدفُّق الهجرة، حتّى ولو كانت لهذه الأحداث نتائج سيكون من المناسب تحليلها على المدى الطويل. وقد ظَهَرَ من ثمّ أنّ الأعضاء الجُدد للاتّحاد الأوروبي لم يفهموا على الإطلاق منطق الدول الأوروبيّة الكبرى. لم تنجح مُحاوَلةُ برلين وبروكسل في فرْضِ كوتا لتوزيع اللّاجئين في كلّ أرجاء الاتّحاد الأوروبي. فمن جهة لم يكُن المُهاجرون يرغبون بالبقاء في بلدان الاتّحاد الأوروبي الأقلّ نموّاً، في ظلّ غياب أيّ دعمٍ اجتماعي. ومن جهة أخرى، كانت دول أوروبا الوسطى والشرقيّة أساساً ضدّ فكرة استقبالهم.

مسرحيّة تراجيديّة. في ألمانيا وفي غيرها من بلدان أوروبا الغربيّة، بدا الرأي العامّ شديد الانتقاد لجيرانه في الشرق. وكانت الفكرة العامّة كالآتي: لقد غَمَرْنا جيرانَنا بالنِّعم بقبولهم في الاتّحاد الأوروبي، وهُم يرفضون المُشاركة في الجهد الجماعي، ولو باستقبالِ بعض مئات المُهاجرين. الخلاصة: هُم ليسوا ناضجين كفاية ليكونوا حقّاً جزءاً من العالَم المتحضِّر. المعلّقون الأكثر خبرة في أوروبا الشرقيّة ردّوا مُنتقدين عجز البلدان الأوروبيّة الأكبر حجماً والأكثر ازدهاراً عن فهْم حقيقة أنّ “بعض مئات اللّاجئين هؤلاء” يشكّلون بالنسبة إلى البلدان الأصغر والأقلّ ازدهاراً حِملاً مُختلفاً تمام الاختلاف. فبعيون الألمان مثلاً، القادرين على استقبال مئات آلاف الأشخاص من ثقافات وديانات مُختلفة، فإنّ بعض المئات وحتّى الآلاف من الغرباء لا يؤثّرون على بلغاريا أو سلوفاكيا. غير أنّ لهذه الدول الصغيرة، التي لم تحصل على سيادتها الوطنيّة أو لم تحقِّقها إلّا مؤخّراً، رأياً آخر في القضيّة. وخوفها من فقدان هويّتها الذاتيّة ليس نظريّاً أو مجرّداً، بل حقيقيّ، على الرّغم من أنّه مبالغ فيه.

هكذا، فإنّه في منتصف العام 2010، أضحت أزمة الهجرة نقطة خلاف رئيسة في قلب الاتّحاد الأوروبي. صحيح أنّ القضايا الخلافيّة كانت قائمة، غير أنّ هذه القضيّة تجلّت على مستوىً ذهنيّ أعمق بكثير.

الأحداث التي تجري حاليّاً على الحدود بين بيلاروسيا ولتوانيا، وبخاصّة بولندا، تفتح فصلاً جديداً في دراما الهجرة، من شأنه أن يصبح، كما نرى، منعطفاً في مسرحيّة تراجيديّة. لندَعْ جانباً مسألة معرفة كيف انوجَدَ هؤلاء النازحون من الشرق الأدنى تحديداً هنا. للأسف، فإنّ ظاهرة الهجرة تسمح للبعض باستغلال تطلّعات هؤلاء الأشخاص إلى حياةٍ أفضل لغاياتٍ سياسيّة وتجاريّة. من الواضح أنّ تجربة الرئيس التركي أعطت أفكاراً للآخرين. أمّا ردودُ أفعال الدول التي توجد على طريق هؤلاء الأشخاص السائرين نحو مستقبلٍ مُشرق، فظهرت متدفّقة كالشلّال.

نحنُ نُشاهد دائماً هذا الهلع من تدفُّق الأجانب من جهة، كما نلاحظ من جهة ثانية ذاك الإحجام الدائم والقويّ عن عدم تسييس هذه الموضوعات المهمّة. من الواضح أنّ تدفُّق المُهاجرين من أراضي بيلّاروسيا ينبغي أن يُناقَش مع السلطات البيلّاروسيّة على وجه الخصوص. وهذا ما كان عليه الأمر مع تركيا خلال مَوجة الهجرة السوريّة. غير أنّ وارسو تبنّت، شأنها في ذلك شأن الاتّحاد الأوروبي، موقفاً متصلّباً برفضها الحوار مع مينسك، عاصمة بيلّاروسيا، طالما أنّ “ألكسندر لوكاشينكو” لا يزال في الحُكم؛ الأمر الذي كان من نتائجه تقديم مشهد غير مُستحَبّ للعالَم بأسره، تتصدّره بولندا، المُدجَّجة بالسلاح، وهي تصدّ اللّاجئين وتطردهم أمام عدسات الكاميرات [حينها، تحدّثت أنجيلا ميركل هاتفيّاً مع ألكسندر لوكاشينكو].

إذا ما راقبنا هذه الأحداث من ضمن سياقٍ أكثر شموليّةً، يكون منفصلاً عن أحداث العالَم ما بعد السوفياتي، سنرى أنّ ظاهرة الهجرة الكثيفة للسكّان تؤذِن أو تَعِدُ بأن تكون القضيّة الأساسيّة من ضمن سلسلة القضايا والأحداث السياسيّة الدوليّة للعَقد المُقبل. في البلدان الغنيّة، أصبحَ خطاب اليسار الذي يدين الكولونياليّة وما يستتبعها، شعارَ التقدّميّين. وهذه الأفكار تُضاف إلى إرادة إغلاق الباب أمام الذين يظنّون أنّ العالَم المتطوِّر مدينٌ لهم منذ الحقبة الكولونياليّة.

يُحتمل لهذه المواجَهة أن تكون قابلة للانفجار. فكلّما ابتعدنا عن القرن العشرين، بانَ كم كان إنهاء الاستعمار في نهاية المطاف الحدثَ السياسي الرئيس للقرن الفائت، وذا التأثير الأكثر استدامة. وهكذا فإنّ تداعياته سوف ترسم وتشكِّل صورةَ العالَم التي سيكون عليها خلال خمسٍ وعشرين سنة، وربّما أكثر، أي خلال خمسين سنة. دوّامات اليوم أو اضْطراباته ليست سوى البداية.

***

*مؤسّسة الفكر العربي

*نشرة أفق

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *